الخطاب الحسيني الفعال
رضي منصور العسيف
تقدّم الحسين (عليه السلام) صبيحة يوم عاشوراء حتى وقف بإزاء القوم، فجعل ينظر إلى صفوفهم كأنّهم السيل، ونظر إلى ابن سعد واقفاً في صناديد الكوفة فقال:
الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته والشقيّ من فتنته، فلا تغرّنكم هذه الدنيا، فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها وتخيّب طمع من طمع فيها، وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته، وجنّبكم رحمته، فنعم الربّ ربّنا، وبئس العبيد أنتم! أقررتم بالطاعة، وآمنتم بالرسول محمد (صلى الله عليه وآله) ثم إنّكم زحفتم إلى ذرّيته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان، فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبّاً لكم ولما تريدون، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبعداً للقوم الظالمين.
فقال عمر: ويلكم كلّموه فإنّه ابن أبيه، والله لو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً لما انقطع ولما حصر، فكلّموه فتقدّم شمر لعنه الله فقال: يا حسين ما هذا الذي تقول؟ أفهمنا حتّى نفهم.
فقال: أقول: اتّقوا الله ربّكم ولا تقتلوني، فإنّه ﻻ يحلّ لكم قتلي، ولا انتهاك حرمتي، فإني ابن بنت نبيّكم (1).
إن مخاطبة العقول والقلوب، فنٌ لا يجيده إلا من يمتلك أدواته، وإذا اجتمعت مع الظروف من حيث الزمان والمكان أثرت تأثيراً بالغاً، ووصلت الفكرة بسرعة البرق.
هكذا هو الخطاب الحسيني الفعال الذي بدأ في خطبة الإمام الحسين (عليه السلام) في منى واستمر هذا الخطاب يدوي في كل خطوة يخطوها الحسين (ع) نحو كربلاء…
صارت كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) تحفز وتوقظ تلك الضمائر من سباتها … صارت كلمات الإمام الحسين (ع) تستقطب تلك الرجال من المعسكر المقابل ليلتحقوا بالمعسكر الحسيني بعد سماعهم تلك الخطب المؤثرة.
إن كل كلمة نطق بها الإمام الحسين (ع) كان لها وقعًت وتأثيرًا في المعسكر المقابل ولذا كان بن سعد يأمر بعض رجاله بقرع الطبول والتشويش على هذا الخطاب الحسيني لكي لا يتأثر به بقية الرجال.
إن خطاب الإمام الحسين (ع) يضاهي ويتفوق على خطابات العصر الحاضر فهو خطاب جماهيري وخطاب مؤثر يشحذ الطاقات ويوجهها نحو هدف ما، وهو خطاب يتغلغل في نفس الإنسان وضميره وعقله ليجعله ينتفض على ذلك الواقع ويتحرك نحو التغيير والعزة والكرامة.
إن الخطاب الحسيني الفعال يتميز بقدرته على التأثير والاقناع، ولهذا الخطاب أدواته، نذكر منها:
الجاذبية الشخصية وقوتها
الحسين (ع) قوة عظمى تتميز بجميع صفات الشخصيات المؤثرة، بل إن شخصيته ملهمة للشخصيات الأخرى، فهو الذي يقف أمام تلك الجموع ويرى أسنة الرماح والسيوف ولكنه يقف صامدًا ويخطب تلك الخطب ألا يدلك هذا على قوة الشخصية وتلك الثقة التي كان يتمتع بها.
إن الخطيب الناجح هو الذي يمتلك عناصر القوة في خطابه، ومنها الثقة بالنفس عند الحديث، فهو ينطق كل كلمة بكل شجاعة، وهو يعي تأثير تلك الكلمة على مستمعيه، كما أنه يبُثَّ قوة سلطتة من خلال طريقة حديثه أو جلوسه ووضعية جسده، إضافة إلى استخدام الحركات والإيماءات بفاعلية لإثبات وجهة نظره.
القدرة على تشخيص المشكلة الاجتماعية
قال الإمام الحسين (ع): “وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم وأعرض بوجهه الكريم عنكم”.
إن تحديد المشكلة والسلبيات التي يعاني منها المجتمع، وتوضيح أثار تلك المشكلة وكيفية علاجها، توضح للمجتمع بطريقة غير مباشرة أن الخطيب قد درس جميع جوانب القضية ومستعدًا لوضع الحلول الناجحة.
إن هذا الخطيب لا يتحدث عن فراغ ولا يتحدث نظريات وفرضيات، ولا يتحدث في فضاء آخر لا ينتمي إلى هذا المجتمع. بل إن حديثه نابعٌ من رحم المجتمع ومتحسسٌ لمعاناته.
إن توفر هذه القدرة لها دورٌ في إقناع المجتمع بضرورة التغيير والتمسك بالرؤى الجديدة.
خطاب تجديد
تأتي عاشوراء لتعيد تجديد الحياة للمجتمعات، تأتي عاشوراء بقيمها وفضائلها وبصائرها المشرقة لتعيد الحياة للمجتمعات.
إن ملحمة عاشوراء هي تختزن في باطنها العديد من الأطروحات الحضارية، ولكنها تحتاج إلى من يعمل على إخراجها وصقلها بقالب حديث تجديدي لا يفقدها بريقها وتأثيرها.
ولذا تجد الخطاب الحسيني الفعال هو من يفقه هذه النقطة الجوهرية ويعمل على تجديد وتطوير الخطاب العاشورائي، فكلّما كان أكثر تعبيرًا عن رسالة الحسين وقيمه، كلّما أمكن للمتلقين فهم رسالة الحسين(ع) وقيمها بشكل أفضل. وصولاً إلى العمل على تطبيقها بشكل أصح وأفضل.
خطاب أمل وتغيير
جاء الحر بن يزيد الرياحي ووقف بين يدي الحسين (ع) وقال (بعد حديث طويل): أفترى ذلك لي توبة؟ قال: نعم، يتوب الله عليك ويغفر لك، ما اسمك؟ قال: أنا الحرّ بن يزيد. قال: أنت الحرّ كما سمّتك أُمّك، أنت الحرّ إن شاء الله في الدنيا والآخرة (2).
بهذه العبارة يصنع الإمام الحسين (ع) رجلاً بطلاً، يخرجه من الظلمات إلى النور، لقد زرع في نفسه بذور الأمل، وأضاء له الطريق لينطلق في ساحة المعركة بكل عزيمة وحب وشوق إلى الفوز بالجنة.
هكذا هو الخطاب الحسيني الفعال: لا يقف عند حدود الدمعة بل يرتقي بها إلى الرغبة في التغيير.. الخطاب الحسيني الفعال هو الذي يدفع بالمؤمنين للتسابق للخيرات … الخطاب الحسيني الفعال هو الذي يصنع الأمل والثقة والتفاؤل…
لذا ليكن خطابنا في هذا الموسم متجددًا إيجابيًت … باعثًا في نفوس المستمعين روح الأمل والتفاؤل.
الهوامش:
1 ) كلمة الإمام الحسين (عليه السلام) ، السيد حسن الشيرازي ص 220
2 ) مقتل الحسين (ع) – أبو مخنف الأزدي – الصفحة ١٢٢