مقالات

من حديد إلى ذهب ..

✍️ حسين المحروس

أتذكر عندما كنت في ابتدائية زين العابدين (سلام الله عليه) في الدبابية, على جانب الطريق كنت اسمع صوت الحدادين في أطراف سوق مياس وهم يطرقون الحديد ويشكلونه تحت وطأة الحرارة والطرق المنتهي بالاحمرار. طبعا لا يخفى عليكم ان الحديد من أقسى المعادن واصلبها وأشدها بأسا (وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) , وهذه ميزة تحسب له, وبذلك ترفع باقي المعادن قبعتها له, الا ان الضعف يعتريه ويهز كيانه وينخر جسده, وياللغرابة من ماذا؟ تصور! بسبب فقاعة صغيرة ضعيفة في ظاهرها, فقاعة مملوءة بالغاز, فيستحيل منهارا متفتتا امام فقاعة من ثلاثة مصادر مختلفة.

اليوم سوف نتحدث عن الصدأ, وبالتركيز على “الحماية الكاثودية” التي تقي المعدن وتحميه من سرطان الصدأ, وتطيل في عمره وتؤجل موته وفناءه.

خذ مثالا, هذا الأنبوب الحديدي المدفون في باطن الأرض، نعم انه ساكن، هادئ, كالميت الذي لا حراك فيه. مهلا! ارجع البصر, فتراه ينطوي على حياة خفية ملؤها الطاقة والصراع من اجل البقاء, يشق طريقه في التكامل والوظيفة التي خلقه الله سبحانه وتعالى من اجلها. لذا فها هو يسعى كبقية الخلائق للعيش ضمن ابسط صورة من التعادل الكوني الذي يتناسب وكونه حديدا. بمعنى اخر هو لم يوجد على شكل حديد صاف نقي, بل تكون في قشرة الارض على شكل مركب يحتوي فيما يحتوي على الحديد كعنصر ضمن المادة الخام (هيماتايت ومجناتايت). وبسبب حاجة الانسان للآلة القاسية, افاض الله سبحانه عليه طرق الاستخلاص بإعمال طاقة الحرارة والصهر, مما وضع الحديد النقي في موقف حرج من مستوى عال لا يتناسب ووجوده وكينونته. هذا فرض على الحديد وضعا جديدا واجبره على السعي في خسارة تلكم الطاقة الانسانية الوضعية الطارئة المخزونة فيه جراء عملية التنقية والاستخلاص, لذلك فهو عفويا وبسذاجة اللاوعي والفطرة المغروزين فيه يسعى حثيثا لخسارة هاتيكم الطاقة من خلال الصدأ. بلهجة عامية, الحديد يصدأ لأنه يسعى للعودة لطبيعته كمادة خام.

أوكي, فهمنا انه لماذا لابد للحديد ان يصدأ, ولكن عفوا ماهي قصة الفقاعات الثلاث, وماهو وجه الربط برحلة الحديد الصدأية هذه؟

الفقاعة الأولى

حتى يصدأ الحديد يحتاج الى عوامل مساعدة من ضمنها تواجد الاكسجين على السطح, فكما ان النار تحتاج للهواء للاستمرار, كذلك صدأ الحديد بحاجة للأكسجين المذاب في الماء كضرورة لديمومة عملية عكس الاستقطاب عند الكاثود (cathodic depolarization). لا نرى ثمة حاجة ماسة للشرح العلمي المطول لندرك المطلب, فنحن نرى بأم اعيننا وجدانا كيف ان الحديد يصدا بمجرد تعرضه للرطوبة والهواء.

الفقاعة الثانية

الان لننفذ الى داخل الانبوب المحتوي على سائل يجري تحت ضغط وسرعة عاليين, فبسبب حركة الموائع, ربما ينحبس من ضمن مكوناتها بعض الفقاعات الصغيرة المضغوطة. هذه الفقاعات سوف تنفجر لاحقا على السطح الداخلي للأنبوب. تخيل معي, فقاعة ملليمتريه ما عساها ان تؤثر لو انفجرت؟ انها الدمار الشامل بعينه!! آلاف الفقاعات المضغوطة ضمن السائل المحصور أصلا تنفجر في ذلك الجسد الحديدي المنهوك بسبب الحرارة والضغط والاحتكاك والاهتزاز, شيئا فشيئا تساعد تلكم الفقاعات على تآكل وتصدع وذوبان وتعرية الانبوب من الداخل, أضف الى ذلك سرعة التآكل الكهروكيميائي (erosion corrosion) داخليا وخارجيا على سطح ذات الانبوب المسكين المنهك, لينتهي الصراع باستسلام الانبوب وتسريب السوائل للخارج.

الفقاعة الثالثة

هذه المرة نود ان نعرف كيف ان فقاعة حسنة النية وطيبة المقصد قد أخطأت الهدف, كما روي عن امير المؤمنين صلوات الله عليه (ليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه). هذه الفقاعة الطيبة تتكون خارج الانبوب ولكن هذه المرة كونها سفيرة النيات الحسنة, كفقاعة “الحماية الكاثودية”. دعني اوضح بان الحماية الكاثودية هي عملية عكسية ومضادة للصدأ, من خلال استخدام الكهرباء في حماية الحديد عن الصدأ. ستوب!!! انت قد قلت للتو ان الحديد لابد ان يصدأ, ثم ما لبثت تعاود لتقول مجددا انه يمكن إيقاف الصدأ؟ ماهذا؟

نعم, نحن الكهروكيميائيون تعلمنا ان “نحول الحديد الى حديد لايصدأ كما الذهب”, فلا يصدأ الحديد بين أيدينا. ولكن كيف؟ نسلط مقدارا من التيار الكهربائي على الحديد فنحرفه عن طبيعته ورغبته وسعيه للصدأ وذلك بجعل العملية الصدأية تحدث ولكن ب”كنترول” وهندسة من قبلنا تجعلها تتمحور في اطار مدروس وفي جسم معين نسميه “الحامي”, والذي نقوم باستبداله كل 20 سنة تقريبا.

قارئنا العزيز يتساءل, فما بال الفقاعة الطيبة وماهو وجه الطيبة فيها؟ للحماية الكاثودية الفعالة مستوى معينا كالدواء لو زاد لانقلب سما زعافا. عدم الموازنة في الحماية ينتج فقاعات من الهيدروجين على سطح الانبوب أكثر من الحد المطلوب وبعضها قد يتسلل خلسة الى داخل جسم الحديد وهناك يتحول من ايون الى عنصر وأخيرا الى غاز الهيدروجين الذي بدوره يضغط على ذرات الحديد, مما يسبب ضعف وفتق الانبوب الحديدي.

وكذلك نحن البشر تتحكم فينا فقاعات ثلاث, الانا والشهرة والمال. من هنا نحتاج الى الحماية الدينية المستمرة لمقاومة تلكم الفقاعات والتغلب عليها وصيانة النفس من شرورها (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).

تقنية تحويل الحديد الى حديد كالذهب لا يصدأ بالعلم والمعرفة بعيدا عن السحر والخرافة, تتطلب منا وقفة جادة لتحويل فقاعاتنا النفسية الى واقع من التواضع بعيدا عن الغرور والتكبر والانا.

زر الذهاب إلى الأعلى