*من عبق الماضي: مهنة تعالج الألم وتحفظ ذاكرة القطيف “المراخة”*

🖌️ حسن محمد آل ناصر
في مسيرة القطيف الاجتماعية تبدو ملامح جيل الأوائل واضحة كالشمس، ذلك الجيل الذ واجه الحياة بصبر وصلابة وجاهد في زمن شحيح الموارد ليؤمن ضروراته اليومية، لم يعرف الترف ولا الاعتماد على غير الذات، لكن انخرطوا في المهن المتاحة وأخلصوا فيها حتى غدت أعمالهم نماذج حية للإتقان والاجتهاد.
رغم قسوة الظروف بقيت الذاكرة المحلية تحمل لنا تراثا غنيا ومشاهد إنسانية لا تزال حاضرة في وجدان المجتمع، تشكل جانبا من ملامح الهوية القطيفية، ومن بين تلك الموروثات تبرز مهنة “المراخة” احدى الحرف الشعبية التي أدت دورا أساسيا في حياة الناس قبل أن تتطور الخدمات الصحية، وقبل أن يبني بالمنطقة بالمستشفيات والعيادات الحديثة.
لم تكن القطيف في تلك الفترة تملك أطباء متخصصين أو مؤسسات صحية قادرة علا مواجهة الأمراض التي كانت تنتشر كالنار في الهشيم وتحصد الأرواح وأحدا تلو الآخر مثلما حصل في زمن “مرض الكرونا”، كان الناس إذا ألم بهم المرض لجئوا الى طبيب الأعشاب الذي يقوم بالطب البديل.
ومع هذا الغياب كان من الطبيعي أن تنتشر المهن الشعبية المرتبطة بالعلاج خصوصا مهنة “المراخ” التي تعنى بتجبير الكسور وعلاج الرضوض وآلام المفاصل، وقد انتشرت هذه المهنة في قطيف الأمس انتشارا واسعا وازدهرت في الأزقة والأسواق والبلدات حتى أصبحت جزء من المشهد الاجتماعي.
ورغم صعوبة العمل البدني وقسوة الظروف استطاع بعض المراخين أن يضعوا لأنفسهم اسما ذائع الصيت بفضل براعتهم وخبرتهم واستقامة سيرتهم، من بين هؤلاء برزت أسماء رسخت في الذاكرة مثل:
• الحاج محمد المشهدي أبو سلمان من بلدة عنك والذي أطبقت شهرته مساحة واسعة من الوطن بكونه مراخا بارعا متخصصا في تجبير الكسور.
• الحاج عبد الله الدعيبل أبو احمد من بلدة القديح والذي حاز شهرة واسعة وذاع صيته بن الناس.
• الحاج حسين الجبيلي من القديح والذي تعلم المهنة وبرز فيها بعد ملازمته لأحد كبار المراخيين.
• الحاجة مليكة محمد علي الحمدان أم السيد طاهر من بلدة القديح، لقد كتبت عنها مقالا مطولا باسم (أم السيد طاهر أم القديحيين).
وقد عرف عن هؤلاء أنهم يعالجون الناس دون طلب مبالغ محددة ويكتفون بما يجود به المريض في مشهد يعكس قيمة إنسانية وأخلاقية لا تزال تثير الإعجاب حتى يومنا هذا.
لم تكن المراخة مجرد عملية “جبر عظم” أو “فرك موضع الألم”، بل كانت طقسا متكاملا يقوم على خبرة متوارثة وقدرة فائقة على قراءة الجسد، “المراخ” يمسك العضو المصاب يضغط ويتحسس ثم يبدأ العلاج بحركات منشارية متتابعة باستخدام إصبعه الإبهام ليعيد إلى الجسد توازنه وليخفف الألم تدريجيا.
ويبدأ “المراخ” عمله عادة باستخدام زيوت ومواد طبيعية تساعده على تليين الجلد وتقليل الاحتكاك وتخفف الألم من أبرز هذه المواد:
• شحم الجمل (ودج الجمال) يطبخ حتى يصبح لزجا كالقريز أو الفازلين، ويعتقد أنه يساعد على التدفئة وتسكين الألم.
• زيت النخيل وزيت الزيتون وزيت الخروع هي مواد توفر انسيابية لحركة اليد فوق الجلد.
• الدهن العربي (الخالدي) مادة تقليدية مستخدمة في الخليج لعلاج الآلام والرضوض.
هذه المواد كانت تستخدم وفق خبرة وليس عشوائية ولكل نوع منها دور محدد بحسب طبيعة الإصابة.
واعتمد “المراخ” على أدوات يدوية بسيطة لكنها مبتكرة وفعالة صنعت بما يتوفر في البيئة المحلية ومنها:
• اليدينة وهي قطعة من جريد النخل تهيأ وتلف بحبال وتستخدم لتثبيت الكسور بطريقة تشبه الجبس الذي نعرفه اليوم.
• الدليجة خليط من التمر والدهن يسخن ويلف في قماش ويوضع على موضوع الألم وكان هذا العلاج يمنح حرارة عميقة تساعد على تخفيف الالتهاب وتحفيز تدفق الدم.
• السبر رمل يتم تسخينه ثم يوضع داخل خرقة قماشية ويوضع على مكان الإصابة ويستخدم خصوصا لعلاج الرضوض وتجمعات الدم.
• الملح الشعبي يسخن ويستخدم بنفس طريقة السبر وله تأثير فعال في امتصاص الرطوبة وتخفيف شدة الرض.
• القهوة الساخنة طريقة شهيرة لعلاج رضوض الأصابع إذ يغمر الإصبع المصاب في القهوة الساخنة لتحفيز الشفاء بسرعة.
• اللفاف (البندج) مثل الشاش أقمشة تلف بإحكام على العضو المصاب لتثبيته أو لحفظ الحرارة داخل الموضع المعالج.
هذه المهنة لا تحتاج رأس مال، بل قلب وخبرة إذ أن المراخة من المهن التي يقوم عليها أشخاص ممتلئون بالإنسانية ولا يحتاج أدوات معقدة وإنما تحتاج لخبرة طويلة وقدرة على التعامل مع الألم وثقة الناس وضمير حي وقليلا من المواد الطبيعية، حتى أن عملية التجبير نفسها كانت تعتمد على دمج الماش مع فطيرة الخبز السميكة والبيض ووضعها فوق الكسر ثم دعمها بلوح خشبي وربطها بإحكام قبل سحب العضو المصاب لتثبيت العظم، وسط صراخ المريض أحيانا، ولكن غالبا ما يتبها ارتياح كبير.
رغم اندثار كثير من المهن الشعبية مع تطوير الطب بقيت المراخة حاضرة في بعض مناطق القطيف إلى اليوم، يلجأ إليها البعض كشكل من أشكال الوفاء للتراث أو كعلاج بديل ومكمل أو ثقة بخبرة أناس خرجوا من رحم التجربة، ومنحهم الله قدرة على العلاج بلمسة يد، وما يميز هذه المهنة أن أصحابها لا يملكون شهادات جامعية، ولكنهم يملكون شيئا آخر أهم هو ثقة الناس وخبرة الزمن وأمانة اليد وذاكرة ممتلئة بالنجاح.
“المراخة” ليست مجرد مهنة تقليدية عابرة لا إنها هي أحد وجوه تاريخ القطيف وإحدى المهن التي جمعت بين الخبرة الشعبية والفطرة الإنسانية، إنها مهنة تؤكد أن العلاج ليس مجرد أدوات حديثة.