مقالات

آثار … وإيثار

✍️حسين المحروس

في ليلة هادئة كان الصاحب يقرأ في فضائلها, فلما أحس بالتعب قليلا, رمى بظهره مستندا الى كرسي مريح. هومت عيناه قليلا, فإذا هو متكئ على جدار خشن الملمس! المكان مفتوح للسماء ويعج بشيء من الظلام. سمع كأنما هناك ثمة شخص يتوضأ؛ تخيل قطرات الماء تنساب منها كاللؤلؤ الوقاد. تسائل بدهشة أين انا ومن هي تلك المرأة التي تتهيأ للشروع في الصلاة؟

قذف في قلبه ان الجدران والحصى والسماء والماء كلهم يرددون تسبيحها وترديد الملائكة في الأعلى, سماء مزينة بنور يتصاعد من ذلك البيت المتواضع. على يمينه يقبع الجزء المسقوف من ذلكم البناء, بسقف منخفض، جدار طيني، باب خشبي ينفتح على ممر ضيق. السكون يملأ الاركان، وقد اتخذ الليل من هذا المسكن مختلفا للملائكة. ضوء خفيف يتسلل من كوة صغيرة، هالة رقيقة تلتف حول المكان تشعره بالدفء والامان.

وقفت السيدة الجليلة بهدوء، خطوات متزنة، ثوب يتحرك بخفة على الأرض. لا صوت سوى ما تبقى من خرير ماء الوضوء، كانت متهيأة للصلاة، رافعة يديها. كأن اللحظة كلها قد توقفت بانتظار هاتيك البرهة.

كبرت, ركوع طويل, سجود عميق, انكسار الذليل الى الله. امتدت السجدة حتى أصبح الزمن نفسه يبدو بطيئا. انفتح أفق من نور يفسح الطريق الى السماوات, صفوف الملائكة، نور يمتد بلا بداية وبلا نهاية. وفي الأعلى هناك ترى وميضا من بقعة الضياء الصاعدة، أصلها هذا البيت الصغير في المدينة الذي اذن الله ان يرفع ويذكر فيه اسمه.

بينما يباهي الله جل جلاله ملائكته: «يَا مَلَائِكَتِي، انْظُرُوا إِلَى أَمَتِي فَاطِمَةَ سَيِّدَةِ إِمَائِي، قَائِمَةً بَيْنَ يَدَيَّ، تَرْتَعِدُ فَرَائِصُهَا مِنْ خِيفَتِي، وَقَدْ أَقْبَلَتْ بِقَلْبِهَا عَلَى عِبَادَتِي»

فجأة, انتبه الصاحب لخيال طفل عند طرف الباب، يمسك بيده قائمتين خشبيتين ويطلّ برأسه. إنّه الحسن عليه السلام راى امه تصلي تجسيداً لقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ﴾.

طال الليل، واقترب الفجر من التنفس، وفاطمة لا تزال تلهج بالدعاء. أرهف الحسنُ سمعه؛ عيناه تتابعان أمّه، كأنه يريد فكّ لغز ما يجري. يراقبها خلسة بلا صوت. الليل ينساب، والسكون يزداد، وفاطمة عليها السلام ما تزال بين سجود ودعاء. تسمي الناس واحدًا واحدًا. مؤمنا، مؤمنة، جارا، قريبا، بعيدا… الدعاء يتدفق منها كأنه جدول ماء ينحدر دون توقف. أسماء لا تُحصى، لكن اسمًا واحدًا لم يظهر: لقد كان ذاك اسمها.

اقترب الحسن خطوة، ثم أخرى. وقف خلفها لحظة ينتظر نهاية السجدة. وعندما رفعت رأسها، تسائل ببراءة الطفولة: «أمّاه… لِمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟» التفتت إليه. عيناه الصغيرتان تحملان نورًا. قائلةً بصوتٍ يقطر حناناً: «يَا بُنَيَّ.. الْجَارَ ثُمَّ الدَّارَ»

وقع الجملة بقي في صدر الصاحب, يرددها ويتأمل معناها.

الجار… ثم الدار.

الآخر… ثم الذات.

لقد أعطت فاطمة للصاحب درسًا في الايثار وكشفت له تجسد العبادة في صورة الرحمة العامة.

زر الذهاب إلى الأعلى