مقالات

من عبق الماضي: وجع جميل وفرح مصدره الأقراط “التراكي”

🖍️حسن محمد آل ناصر

منذ كنت صغيرا أشاهد طقوس صغيرة تحمل في تفاصيلها حكايات مجتمع وذاكرة أم وبهجة أخت، لم يكن خرم الأذن مجرد فعل عابر لتميز الأنثى عن الذكر لكنه احتفالا شعبيا متكامل الأركان وعلامة مبكرة على قدوم “البنت” تلك التي كانت تعد سندا لأمها وعونا في البيت ووجها للسعادة والفرح والفأل الطيب.

حينما تولد الأنثى يبدأ العد التنازلي لأول طقس جمالي يميزها يأتي بالألم الجميل “ثقب الأذنين” استعدادا لوضع “التراكي” أو الأقراط أو الحلق تعددت المسميات لكن العرف واحد، والتي كانت قديما من الذهب أو الفضة وأحيانا من مواد بسيطة تشترى من السوق الشعبي، لم تكن الأدوات الحديثة متوفرة آنذاك غير أن الأم هي من تقوم بالمهمة بنفسها بكل جرأة وعناية.

تبدأ بتحضير الإبرة والخيط وتغمس الخيط في خليط من الماء والخيل “ديل الحصان” وهو مستخلص عشبي يجلب من العطار لتقليل فرص الالتهاب، ثم تخترق شحمة الأذن بالإبرة ويمرر الخيط ويعقد ويبقى أياما مع تحريكه بين حين وآخر، حتى لا ينغلق الثقب، كانت الأم تدهن الأذن بالزيت وتحرص على نظافتها وأحيانا تستخدم مسحوق “الميكروه” لتخفيف الالتهاب، بعد أسبوع تقريبا ينزع الخيط ويستبدل بالأقراط “التركية” وإذا ما بدا لها أن الثقب لم يلتئم جيدا وضعت عود قرنفل مكانه لأيام إضافية لتثبيته.

أروي هذه القصة من موقع الأخ والجار والصبي الذي كان يراقب البنات في الحي وهن يتباهين بتراكيهن المتدلية وكأنها أوسمة أنوثة مبكرة، كنت أرى الفتيات يتألم يتألمن أوقاتنا وتورم آذانهن فتسرع أمهاتهن لقص الخيط ويتكرر الأمر مرة بعد مرة لكن الحماسة لتلك القطعة اللامعة في الأذن لا تخبو.

أتذكر جيدا أختي الصغيرة كيف كانت تبكي كلما رأت رفيقاتها في الحي وقد لبسن “التراكي” وهي لم تخرق أذناها بعد، كانت أمي تخاف عليها من الألم تؤجل وتؤجل حتى جاء يوم بكت فيه أختي بحرقة ورضخت أمي، لكن كالعادة تورمت الأذنان فقصت الخيط وأغلق الثقب لتبدأ المعاناة من جديد بعد أشهر.

مع مرور الوقت صارت تلك الطقوس قصة تحكى خاصة حين تزوجت أختي وأصرت وهي عروس أن تعيد خرم أذنها مرة ثالثة لتلبس أقراطا تليق بالحفل الكبير، لم يكن سهلا عليها ولا على أمي إلا أن الفرح كان أقوى من الخوف، وتمر الأيام وتلد أختي بنتا وإذا بأمي تعيد ذات الطقس، ولكن هذه المرة بحذر وخبرة وتجربة طويلة حرصت أن تخرق أذن حفيدتها في عمر العشرة شهور قبل أن تشيد مقاومتها وتصبح صرخاتها مؤلمة أكثر من لحظة الثقب نفسها.

أما الطفلة فمرت بنفس الحكاية، تراكي تلبس فتضيع ثم تشترى أخرى فتنغلق الأذن بعد غياب ثم تعاد المحاولة والحلقان تتغير، لكن المشهد يظل هو ذاته ذكرى من الماضي وحكاية من طفولة الأمهات وموروث شعبي لا ينسى، وفي الحي كنا نردد تلك الأهزوجة القديمة بصوت فيه سخرية لطيففة ومحبة برية: (بتول تخم الحوي، ضاعوا تراكيها، تبغى تراكي ذهب، أبوها يراشيها).

وها أنا ذاك الأب الذي يرى ابنته الصغيرة “بتول” تتطلع إلى مرآتها وتطلب “تراكي من ذهب” فلا أملك إلا أن ابتسم واعرف أنني في دائرة من التراث لن تنتهي، ما دامت البنات يولدن والأمهات يردن لهن زينة الطفولة، حتى لو كانت بدمعة خفيفة.

زر الذهاب إلى الأعلى