*من عبق الماضي: عاشوا بيننا “مجانين الازقة والطرقات”*

🖌️حسن محمد آل ناصر
كانت هناك وجوه مألوفة في زوايا البيوتات القديمة بالقطيف وازقتها الضيقة، كانت هناك في الطرقات شخصيات نخافها نبتعد عنها وتارة نضحك معها أو نضحك عليها أو نلعب معها، مرت بيننا بالكاد نعرف أسمائهم أو اسمائهن ولا من أين جاءت “كركتر” ذو صفة غريبة حد الدهشة وحد الخوف لكن حفر في عقولنا ولم يغب أثره حتى الآن.
تلك الذكريات جعلتنا أحيانا نبتسم واحيانا أخرى نحزن، من تلك الأرواح التي هامت في الطرقات تائهة تحكي بجنونها ما عجزنا عن فهمه نحن الذين ندعي العقلية النيرة، فالصرخة التي كان احدهم يدوي بها العالم كانت تحمل وجعا لا يبث ولا يلفظ لكنه يشير بنظرة شاردة نحو أفق مختبئ خلف الستار لا يراه سوى المنكسر نفسه، أجل كانوا لا يطلبون شيئا ولا يؤذون أحد فقط يمشون ويهمسون للأيادي البيضاء التي تخفف عالمهم الخاص.
في بيتنا وبيت جرنا وبيت الذي يعقب جرنا وبيتكم انتم، نعم كانوا منا من لحمنا ودمنا، ولكن يا للأسف كنا نخاف الاقتراب منهم، هل كانت نظرة الاستخفاف والاستهزاء هي التي تمنعنا من الاقتراب؟! هل البيئة التي عكست علينا البعد عنهم؟! أو اشكالهم التي توحي برعب أو التصور القاصر منا أنهم وحوش أو ذو شراسة، ولماذا كنا نرميهم بحجارة؟! سؤال يجر ألف سؤال.
اليوم صورهم لا تفارق مخيلتنا ونشعر بشيء من الذنب بشيء من الألم لأننا لم نكن نفهمهم أو نعطيهم ولو نظرة شفقة أو عاطفة ونسبر في محيط عالمهم وقصصهم التي أدت بهم للانكسار والخيبة من الحياة، ولم نفكر ما وراء تلك الوجوه وكيف انتهى بهم المطاف بلا وجهة وبلا اتجاه فقط سائرون مثل المطاردين يبحثون عن الأمان والحضن الدافئ.
هل اصبحوا من عبق الماضي؟! كانوا من ذاكرة الزمان وحكاياته غير المكتوبة، بعد ان ازيلت اكثر الأزقة واختفت الطرقات الضيقة صرنا نبحث عنهم نفتقدهم نفتقد روحنا فيهم وحتى جنونهم وضجيجهم وصمتهم، كل هذا يعني أننا تأثرنا بتلك الذاكرة وتفاصيلها وبالأماكن وشخصياتها، أين هم الآن صاروا مخفيين معزولين في المشفى أو البيت أو يختبؤون بعيدا عن اعين البشر التي لا ترحم المريض، ولكن الحقيقة نحن من نخجل منهم أو نخاف أن يذكرونا بشيء لا نحب الاعتراف به.
في كل قلب قديم لهم مكان واعتقد بأن اغلبنا قد عاشر احدهم أو احداهن تختلف الشخصيات بما تفعل فهناك من يحرق ويشعل لهيب دون قصد ومن يتمتم كأنه يكلم ظله الذي يجري ورائه أو يصرخ لروح كابدها الضياع أو ينشد لخياله ليعبر بما في نفسه من حس كثيرة هي الأفعال وغريبة هي الطباع لكنها أقرب للصدق، فهل نظرنا يوما للمرآة وتأملنا فيها حنين حكايتهم التي لا تنتهي؟! هؤلاء الذين كنا نسميهم مجانين لم يكونوا إلا مساكين كسرت قلوبهم يحتاجون من يربت عليهم.