مقالات

*الحلّة تودع فقيد المنبر الحسيني*

*الحلّة تودع فقيد المنبر الحسيني*

يترجّل الصوت، ويُبكي الصدى، وتذرفُ الحسينيات دمعها على كتف التاريخ.

هو الوداع إذن .. وداعُ قلبٍ عاش على نبض الإمام الحسين (ع)، وارتوى من دمع عاشوراء، رحل الملا حسين آل باقر، لكنّه لم يرحل من ذاكرة المجالس، ولا من أرواحنا التي شبّت على نغمة صوته، وعلى رعشة صمته عند المصرع.

قافلةُ الرحيل لا تتوقّف، فبين يومٍ وآخر نفقد عزيزاً، وتمضي الحياة بنا إلى مصيرٍ محتومٍ ولقاءٍ لا مفرّ منه.

اليوم ودّعت الحلّة الغرّاء علماً من أعلامهاً، وخطيباً رائداً من رواد المنبر الحسيني، سماحة الخطيب الحسيني الملا حسين بن الملا محمد آل باقر “تغمده الله تعالى بواسع رحمته ومغفرته”.

منذ نعومة أظفاري كنت أحرص على حضور المجالس الحسينية التي يُحييها جدي الحاج إبراهيم عبد الله آل عجيان “رحمة الله عليه” في مناسبات أهل البيت (عليهم السلام)، وكان موسم عاشوراء يحتلّ الصدارة منها، فكنت وأقراني نلتزم بالحضور صباحاً ومساءً.

وكان فقيدنا الراحل يرتقي المنبر في حسينيتنا يوميّاً مرتين صباحاً ومساءً، وكنتُ أرتشف من مجلسه ملامح السيرة الحسينية، حتى حفظتُها كما يرويها، ولا تزال في ذاكرتي ملامح تفاعله الوجداني حين كان يروي المصاب الجلل؛ فقد كان “رحمه الله” لا يقوى على إتمام ذكر المصيبة، فيختنق بعبرته، فيتولّى والده الملا محمد آل باقر “رحمه الله” إتمام النعي بدلاً عنه.

تميّزت مجالسه بتحليلٍ للسيرة، ففي كلّ مناسبةٍ يحضرها، تجد نور المعصومين (عليهم السلام) حاضرًا في حديثه، وتلمس أثر الصادقين والصالحين في كلماته.

كانت مجالسه مجالس ذكرٍ ومعرفة، لا مجرد نعي، بل صفحات تُفتَح من حياة أهل بيت العصمة لتغمرنا بالبصيرة والهدى.

ورغم قلّة تردّدي على الحلّة في السنوات الأخيرة، إلا أنّ اللقاء بالفقيد –كلما قُدّر– كان مليئًا بالمحبّة والمودّة.

وحين طالت المدة في أن أحظى بالاستماع لمجلسه المبارك طلبتُ من نجله العزيز الخطيب الأستاذ علي حسين أن نتشرّف بحضور والده “رحمه الله” لإحياء مجلسٍ حسيني في منزلنا، وكان ذلك آخر مجلسٍ أتشرف بحضوره. وما إن ارتقى المنبر حتى عاد الزمن بي إلى تلك المجالس العامرة بالولاء لأهل البيت (عليهم السلام)، فلم يتغيّر منهجه، ولا خفَتَ وهجُ خطابه، فكأنّ الزمان قد توقّف، والمجلس باقٍ على صفائه وأصالته.

🔸️ *لقاءٌ في نفس الميعاد*

وحين شاءت حكمة الله أن يلتقي العضيد بعضيده، رحل فقيدنا الغالي في اليوم ذاته الذي رحل فيه أخوه الملا حسن آل باقر “رحمه الله” بفارق ست سنوات فقط، إذ وافاه الأجل يوم الثلاثاء 8 ذو القعدة 1446هـ، في تكرارٍ عجيبٍ للميعاد والتاريخ.

وما من شكٍّ أن لهذا التوافق دلالةً خفيّة، وحكمةً ربّانية، تُبقي ذكرى الفقيدين حيّةً في وجداننا ما حيينا.

🔸️ *تشييعٌ مهيب في يوم الوداع*

وفي يوم الأربعاء 9 ذو القعدة 1446هـ، عاشت الحلة لحظةَ وداعٍ مهيبة، اجتمع فيها الحزن مع الوفاء، واصطفّت جموع المشيّعين تُزفّ الفقيد إلى مثواه الأخير.

وقد غصّت الشوارع، وازدحمت القلوب، وتقدّم المشايخ والخطباء موكب التشييع، وكان الحزن جليّاً في وجوه المشيّعين.

إنّ محبّة الإمام الحسين (ع) التي ملأت قلب الفقيد، هي التي استجلبت له هذا التشييع المهيب. فرحمةُ الله عليك يا أبا علي، وجعل مثواك جنّة المأوى، وحشرك مع الإمام الحسين (ع) وأصحابه.

لقد أفنيتَ عمرك في خدمة المنبر الحسيني، فالتصقت بك القضية الحسينية وسكنت جوارحك، وإذ نُودّعك اليوم فإننا على يقينٍ بأنّ الإمام الحسين (ع) سيكون في استقبالك، وهنيئًا لك هذا اللقاء المبارك.

أسأل الله أن يُلهم ذويك ومحبّيك الصبر والسكينة، وأن يجمعنا بك في مستقر رحمته، ويجعلنا من رفقاء أبي عبد الله الحسين (ع) في الجنة.

د، تركي العجيان

زر الذهاب إلى الأعلى