من عبق الماضي: ذاكرة الغوص القطيفية “توب يا بحر”

🖍️ حسن محمد آل ناصر
——–
حين نعود للماضي ونسترجع شريط الذكريات إلى زمن الغوص لا نستحضر مهنة فحسب، بل نستدعي حياة كاملة نسجها البحر بمدة وجزره، حيث شكلها الخوف والرجاء والفقد والانتظار، كان البحر في وجدان الأجداد كائنا حيا يخاطب ويعاتب ويخشى ويسترضى أجل أنه مصدر رزق وفي الوقت ذاته باب الفراق الطويل.
في تلك المرحلة القاسية من تاريخ الخليج العربي وبالتحديد بالقطيف عاش الرجال شهورا في عرض البحر يصارعون الأمواج والعواصف ويغوصون في الأعماق طلبا للؤلؤ تحت إمرة النوخذة الذي يقود السفينة ويوزع الأدوار فيما تبقى النساء والأطفال على الساحل يراقبون الأفق ويعدون الأيام حتى موعد القفال، يوم العودة المنتظر الذي كان اشبه بالعيد الممزوج بالقلق.
ومن رحم هذا الانتظار ولد فلكور شعبي غني بالمعاني متجلي بالأهازيج والاناشيد البحرية ولعل أشهرها: توب توب يا بحر.. توب توب يا بحر.. أربعه والخامس ظهــر تـوب تـوب يا بحـر.. تـوب تـوب يا بحـر.. هـات عيالنـا من البحــر تـوب تـوب يا بحــر.. تــوب تــوب يا بحـر ما تخـاف من الله يا بحــر.. ما تخـاف من الله يا بحـــر يا نواخذهـم لا تـصلب عليهـم.. يا نواخذهــم لا تصلب عليهـم ترى حبال الغوص قطعـت إيديهــم تـوب تـوب يا بحــر.. تــوب تــوب يا بحــر ياليتني فوق الدقـل حمـامــه.. ياليتني فوق الدقـل حمـامــه أبشـر ياغــواص بالسـلامــه.. أبشـر ياغــواص بالسـلامـــه ياليتني.. إدهينـه وأدهـن إيديهـم.. ياليتني إدهينـه وأدهـن إيديهـم… وياليتني خيمـه وأظـلـل عليهـم.. وياليتني خيمـه وأظـلـل عـليهــم …
هذه الاهازيج لم تكن مجرد لحن، بل طقسا جماعيا تمارسه النساء قبل موعد القفال بنحو شهر حيث يجتمعن بعد غروب الشمس عند السيف “شاطئ البحر” بإشراف امرأة قوية تتولى تنظيم الإنشاد وتحمل مسؤولية المجموعة، وتتعالى الأصوات في دائرة متحركة مصحوبة بالأهازيج والدعاء والنداء وكأنهن يواجهن البحر وجها لوجه، كان الهدف من هذا الطقس وفق المعتقد الشعبي تخويف البحر وتأديبه إذ اعتبر السبب في فراق الأحبة وطول غيابهم، فالبكاء والإنشاد والتهديد لم يكن عبثا، بل رجاء بأن يعيد البحر الرجال سالمين غانمين محملين باللؤلؤ والخير.
ولم يتوقف الأمر عند الانشاد إذ تحمل النساء سعف النخيل المشتعل ويضربن به الماء في مشهد رمزي يعكس رغبة دفينة في أن “يحس البحر” بحرقة الفراق كما أحست القلوب، كانوا يعتقدون أن كي البحر بالنار وضربه سيجعله ألين وارحم، ومن أغرب هذه الطقوس ما عرف بطقس “القطوة” حيث تزين قطة بقطعة من المشموم وتقوم امرأة شجاعة بثقب أذنها وتعلق خرز فيها ثم تغمس في البحر مرات عدة في محاولة رمزية “تنجيس البحر” وعندما تصرخ القطة من الألم تردد النساء بصوت واحد: ياو، ياو، ياو،
أي بمعنى: جاؤوا، جاؤوا، جاؤوا، في إشارة تفاؤلية بعودة الغواصين وفي الوقت ذاته تستمر أخريات في حرق السعف أو رمي الحصى أو سكب ماء مدمج مع أنواع عشبيه في البحر، كل يعبر بطريقته عن شوقه ووجعه.
هذا التراث الشعبي البحري لم يكن معزولا عن المكان، بل ارتبط بالمدن الساحلية التي شكلها البحر وصاغ هويتها وفي مقدمتها القطيف المدينة التي عاشت قرونا على إيقاع الغوص وصيد السمك بحكم قربها من الخليج العربي واتصالها اليومي بالبحر كمصدر للرزق والثقافة والعمران، لقد سادت فيها مهنة الغوص وازدهرت حولها الحكايات والأناشيد والطقوس لتغذو جزءا اصيلا من حضارتها الاجتماعية.
تبقى أهازيج وأناشيد البحر وطقوسه شاهدا حيا على مرحلة زمنية شديدة القسوة لكنها غنية بالمعنى التي تختزن في تفاصيلها صبر الأمهات وقوة النساء وشجاعة الرجال وتكتشف كيف حول الأجداد الخوف إلى طقس والفراق إلى أنشودة والبحر إلى مخاطب يرجى ويعاتب في ذاكرة لا تزال تنبض حتى اليوم.