مقالات

عندما تتلاقى الأرحام.. تتعانق الأرواح

زكريا أبو سرير

كنت في زيارة لمجموعة من الأصدقاء في ديوانية، وكان أحدهم قادمًا من السفر، وكالعادة المعهودة بين الأصدقاء حين قدوم أحد من السفر تطرح عليه مجموعة من الأسئلة الروتينية والمعروفة والمكررة، حتى إذا وصل دوري وبشكل عفوي سألت الصديق: ما جديدك في هذه السفرة الموفقة؟ حيث اعتدنا على دقة حرصه في انتقاء ما هو مفيد ومثير في كل بلد يزوره سواء كانت الرحلة داخلية أو خارجية. ما كان منه إلا أن أنكس رأسه وصمت قليلًا، ثم رفع رأسه قائلًا: لقد سمعت هناك حادثة مثيرة على لسان قريب، ويعد من أبطال تلك الحادثة العجيبة والغريبة، فصمت الجميع في انتظار ما سوف يسرده على أسماعنا من أحداث تلك القصة العجيبة والمثيرة حسب تعبيره لتلك الحادثة الذي سمعها في سفرته الأخيرة.

بعد أن بدأ بتغيير جلسته وأخذ شكلًا أكثر وقارًا، ثم أخذ نفسًا عميقًا ونظرة نظرة موسعة لجميع الجالسين، ثم قال: نسأل الله أن يلطف بنا وفي أرحامنا. عندها بدأ بسرد الرواية.

كان أحد الأبناء ذاهبًا مع أبيه الذي يبلغ من العمر ثمانين عامًا في زيارة لرسول الله المصطفى (صلى الله وعليه وآله) وفي اليوم الأول لهم بعد وصولهم المدينة المنورة وأثناء توجهم إلى الحرم النبوي الشريف (صلى الله وعليه وآله)، بعد أن خرجوا من الفندق القريب للحرم الشريف وهو مكان إقامتهم، كان لحظتها يصادف وقت فريضة صلاة الظهر، وبينما كانت مِئذنة الحرم النبوي الشريف تصدح بصوت الحق، وهما يسيران على الأقدام أخذ الأب يصرخ على ابنه: لقد تأخرنا! أسرع يا بني أريد أن أصلي في الروضة الشريفة، حيث اعتاد أداء الصلاة فيها زيادة في الأجر والثواب، وكان الأب من النوع الذي يمكث وقتًا طويلًا داخل الحرم النبوي الشريف، فيكثر من الصلوات والدعاء وقراءة القرآن الكريم، إذ يبدأ بالسلام على المصطفى (صلى الله وعليه وآله) وينتهي بوداعه.

وهما يهمان في طريقهما لدخول الحرم النبوي الشريف كانت مشية والدي تتصف بالأدب والوقار والسكينة والخشوع ولسانه مشغول بذكر الله لا يتوقف عن التهليل والتسبيح والاستغفار والصلاة على النبي وآله الأطهار(عليهم السلام)، وكانت المسافة بين الحرم النبوي الشريف ومحل إقامتهما لا تتعدى نصف كيلو متر أو أقل، وعند قربهما من سور الحرم النبوي الشريف علا صوت الأب مبتهجًا وأصوات من معه بخشوع ووقار: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا رحمة الله للعالمين، السلام عليك يا خاتم النبيين والمرسلين، السلام عليك أيها البشير النذير يا نبي الرحمة، يا محمد (صلى الله وعليه وآله).

وعند بدء دخولنا ساحة الحرم النبوي الشريف التفتنا إلى الجهة اليمنى، إذ كان هناك تجمع من المسعفين وبعض الزائرين حول حالة ما. العجيب أن أبي أخذ ينظر طويلًا حول المشهد الذي رآه وعينه على سيارة الإسعاف، وكأنه يريد يعرف ماذا يجري هناك، وكان يحوم حول سيارة الإسعاف مجموعة من مختلف الجنسيات. عندها قال الابن لأبيه: دعنا نهم بالسير يا أبي لأجل نصل إلى المكان الذي ترغب في إقامة الصلاة فيه قبل أن يمتلئ. حينها قال الأب: يا بني أريد أن أذهب لأرى ما يحدث هناك!! لا داعي يا أبي. هذا أمر عادي يا والدي العزيز. إنه يحدث كل يوم بسبب ضعف بعض كبار السن والمرضى، وغالبًا ما تكون من الجنسيات الأخرى وأصحاب الأمراض المزمنة والفريق الطبي معهم. اطمئن يا أبي سوف يقومون بالواجب وأكثر.

فأجاب الأب لابنه جوابًا غريبًا وعجيبًا في الوقت نفسه! حين قال: والله يا بني، إن الأمر ليس بيدي! تشدني نفسي في داخلي رغبة قوية للذهاب إلى هناك عند ذلك التجمع، فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله يا أبي! نحن تحت طوعك وأمرك ما دمت مصرًّا على ذلك. تفضل يا أبي، وكنت لا أعلم لماذا أخذ العَرَق يتصبب فجأة من أبي ولون وجهه قد بدأ يتغير مع أن الطقس كان جيدًا، ولم نمشِ كثيرًا، فشعرت بالخوف على أبي أكثر، وخشيت أن يصاب بشيء (لا سمح الله)، وكان يردد وقتها وهو يسير: لا حول ولا قوة إلا بالله.

وعند وصولنا موقع الحادث، بدأ صوت أبي ينخفض شيئًا فشيئًا حتى صمت، وكان بعض الزوار ما زالوا حول المسعفين. اقترب أبي ليأخذ نظرة، ولكن كانت نظرة تحمل نوعًا من التأمل والخوف والقلق. لم أدرك ولم أفهم أسباب ذلك القلق الذي بأن على وجه أبي، وكأنه وحي هبط عليه يشده بتغير وجهته إلى هذه الجهة التي وصلنا إليها. بعدها مد بصره أكثر إلى ذلك الجسد الممدد أمامنا وعيناه تنظر إليه كالصقر! وأذا به يصرخ فجأة بكل قواه: هذا أخي عبدالله! ودموعه تنهمر على خديه، وإذا به يسقط على الأرض بجوار ذلك الجسد مغمى عليه.

أسرع المسعفون إليه لإجراء الإسعافات الأولية، ثم وضعوا عليه كذلك الأكسجين، وانطلقوا بالاثنين إلى المستشفى، وأُدخلا بسرعة البرق بوابة الطوارئ، وما هي إلا ساعات قليلة من الانتظار حتى خرج علينا من غرفة العناية المركزة طبيب يبلغنا بوفاة والدي ومن كان معه (الممدد في ساحة الحرم النبوي الشريف)، بعدما أجري إليهما ما يلزم من رعاية طبية فائقة، ولكن أمر الله كان أسرع من كل شيء، فارتفع صوت البكاء والنحيب عليهما من أهل المتوفَين، وبينما كان الحزن مخيمًا عليهم، تقدم أحد أبناء المتوفَّى الثاني للأول وقال له: ما علاقة أبيك بأبينا حتى فارقت روحه الحياة؟ وكيف عرف اسم أبينا ثم أغمي عليه؟ فأجبته: والله، لا أعلم شيئًا عن الموضوع غير الذي رأيناه سويًّا. عندها سردت القصة على السائل حتى حصل ما حصل والجميع في حالة من الذهول والدهشة مما حدث.

وقبل الفراق والوداع من المكان الذي التقي فيه هؤلاء الأشخاص قدَّم كل واحد منهما نفسه للآخر؛ فبدأ الأول وذكر اسمه كاملًا؛ فتعجب الثاني فورًا وقال: معقول! وقال له الآخر: وما هو غير المعقول يا أخي؟ فأجاب: من اسمك! هل هذا اسمك؟ فقال له: نعم. عندها أخرج له بطاقته الوطنية ووضعها بين يدي الأول، وطلب منه أن يقرأ اسمه؛ فصعق، إذ تبين أنهما أبناء عمومة وأن المتوفَين كانا أخوين يجمعهما أبٌّ وأمٌّ، وأنهما افترقا عن بعضهما بسبب خلافات عائلية لا يعلم بتلك الخلافات إلا الله، وهما رحلا مع سرهما عن الدنيا إلى محكمة العدل الإلهي.

وقد تكشف فيما بعد أن مدة فراق الأخوين عن بعضهما بعضًا تجاوزت عقدين؛ إذ لم يلتقيا إلا عند احتضار روحهيما! حينها علما أنهما التقيا وفي هذه اللحظة لا ينفع قول: ارجعوني لعلي أعمل صالحًا؛ لأنه انسدل ستار العمر، وذهب الاثنان بسرهما إلى خالقهما، وهناك يلتقي الخصوم بين العدالة الإلهية التي لا مفر منها.

السؤال هنا: ماذا تكشف إلينا هذه الحادثة وغيرها من الحوادث العائلية الأليمة والمفجعة التي قد نعرف بعضها وقد غاب عنا كثير منها؟

الواجب علينا أخذ الدروس والعبر وتجنب الوقوع فيها وتدارك مخاطرها الحالية والمستقبلية، وهي تعد لنا فرصًا ذهبية لإعادة النظر والتفكير في أوضاعنا مع أرحامنا؛ بدءًا من الدائرة الأولى وانتهاءً بأقصى دائرة تلامس حياتنا، وإعادة صياغتها من جديد، والتفكر في سرعة معالجة الأخطاء بأسرع وقت ممكن عبر الذهاب إلى منطقة الحلول والمعالجة وإعادة نبض تلك العلاقات الروحية والقلبية من جديد بين الأرحام، من دون الالتفات إلى الماضي الأسود الذي خلف وراءه حياة سوداوية بين كل فرد من أفراد العائلة.

حوادث الخصومات والقطيعة التي تجري بين الأرحام أصبحت تشكل أزمة اجتماعية وعلى مستوى عالٍ في المجتمع مع الأسف الشديد؛ ولأسباب قد توصف بالتافهة تضيع أسر، بل أخذ بعضهم يتفاخر بقطع بعض أرحامه إن لم يكن يتفنن في إيذائهم بشكل أو بآخر، من أشكال التنمر والتعالي عليهم وقطعهم، وهذا الأمر محزن.. أن يحدث هذا العمل القبيح بين أناس وأرحام تدعي أنها من أتباع خاتم الأنبياء وسيد الأخلاق نبينا وسيدنا المصطفى محمد (صلى الله عليه وآله).

حيث أخذت تلك الخصومات (بعد أن مزقت الجزء الكبر من العائلة) في التوارث؛ يتوارث تلك الخصومات ويحملها معه و يوصلها من جيل إلى آخر، وكأنه تراث عظيم أو إرث بالغ الأهمية ويحرص على الالتزام به والمحافظة عليه، بل يزيدون في تعميقه أكثر وأكثر في نفوس كل فرد من أفراد العائلة؛ حتى لا يضيع ذلك الإرث ويستمر مسلسل تمزيق أواصر العائلة تمزيقًا من دون الالتفات إلى عواقبه الوخيمة على الأسرة وعلى الأرحام، وما سوف تصل إليها تلك العائلة جراء هذا الصنيع الخبيث من دمار عائلي شامل من الكراهية والحقد والحروب النفسية، وقد تمتد إلى أعوام عديدة، ويصعب بعدها التفكير حتى في إصلاح ذلك الخراب، إلا اذا جاء جيل من العقلاء ينفض غبار هذا الدمار الذي تحول إلى صخور من الحقد والحسد والكراهية، وتغلغل في قلوب هذه الأسر .

والسؤال المهم الذي ينبغي التركيز عليه والبحث عن الإجابة له، ولأجل إيقاف هذا الدمار الأسري الشامل: من المسؤول والمتسبب في هذه النزاعات العائلية؟ ومن الذي يقودها ويخلق من أجلها الحروب النفسية الشيطانية والشرسة في وسط كل فرد من العائلة ولأتفه الأسباب مخلفًا دمارًا يشعل بها حرائق عائلية تطيل أمدها أعوامًا عديدة؟ حتى يصبح كل فرد منهم وكأنه خزان من الكراهية والحقد ضد الآخر، بل يتحول إلى بارود ينتظر لحظة الصفر لكي يقتنص الفرصة لينقض على الآخر.

قد تختلف الوسائل والطرق عند كل شخص في إيصال رسائله للآخر، وهذا يعتمد على مدى التفكير والمستوى الثقافي والنفسي التي يحملها كل طرف، ولكن من يحدِّد هذه الدوافع المشتركة بينهم هو المنطق الذي يدور في فلك الضمير أولًا، والنية ثانيًّا، وبعدها يخرج من جوفه، وفي هذا التوقيت ينبغي تحكيم العقل والضمير لكيلا يقع أحد الأطراف في فخاخ دائرة الفتنة ويكون أحدهما وقود تلك النار.

من يقرأ ويتأمل ويتفكر في الروايات الشريفة والكثيرة المروية عن النبي الأكرم وأهل بيته الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين) يكشف له مدى خطورة جريمة قطع الأرحام والمتسببين في ذلك العمل الشيطاني. عندها سوف يدرك حقيقة ومصير هذه الجريمة البشعة والخطيرة وغير الإنسانية والتي تشكل بكل تأكيد جوانب دمار للعائلة سواء كانت في الحاضر أو المستقبل.

أختم رسالتي هذه بقول الله تعالى في كتابه الكريم إلى كل من تسول له نفسه بقطع أرحامه أو من يساهم في هذه الجريمة الإنسانية:

” قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” سبأ: ٤٧.

اترك تعليقاً

نص التعليق

زر الذهاب إلى الأعلى