مقالات

مثقف .. بلا قراءة !!

✍️ أ. تركي مكي العجيان

حين يُذكر مفهوم الثقافة، يتبادر إلى الذهن مباشرةً مشهد القارئ المنهمك بين الصفحات، وكأنّ الثقافة لا تُولد إلا من رحم الكتاب، ولا يُمنح لقب «مثقّف» إلا لمن اتّخذ القراءة رفيقًا دائمًا. ومع أنّ القراءة كانت – ولا تزال – أحد أهم جسور المعرفة، إلا أنّ اختزال الثقافة فيها وحدها حوّلها من أفقٍ رحب إلى قالبٍ ضيّق، وأقصى أنماطًا أخرى من الوعي والتعلّم لا تقلّ أثرًا ولا عمقًا. من هنا يطرح هذا المقال سؤالًا هادئًا لكنه عميق: هل يُمكن أن يكون الإنسان مثقّفًا، بلا قراءة؟

وحين نقترب من هذا السؤال، لا بوصفه تشكيكًا في قيمة الثقافة، بل محاولةً لإعادة النظر في تعريفها، نجد أنّ الثقافة عنوان تقدّم الفرد والمجتمع، وهذا مما لا يختلف فيه اثنان. ولطالما بثّ المثقّفون والمفكّرون وذوي الرأي في المجتمع فكرةً مفادها أن القراءة هي المنبع الأساس للثقافة، وقد أنزل الله تعالى في ذلك قرآنًا، بل إن أوّل آيةٍ من آيات القرآن الكريم نزلت على الرسول الأعظم “صلى الله عليه وآله” -وفق المشهور- آيةٌ تأمر بالقراءة، قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} “العلق، 1”.

وقد تغذى المجتمع بهذه الفكرةٍ حتى باتت تمثّل معتقدًا لدى الناس، مفاده أن الفرد الذي لا يعتمد القراءة برنامجًا عمليًا في يومه لا يُعد من المثقّفين الذين يُشار إليهم بالبنان.

ورغم أن هذه الفكرة إيجابية وفيها جانبٌ من الصحّة، إلا أنها لا تخلوا من ثغرةٍ كبيرةٍ، إذ أنّها حجّمت منابع الثقافة في منبعٍ واحدٍ فقط، وهو القراءة.

غير أن التأمل الأعمق يكشف لنا أنّ منابع الثقافة متعددة، ولا تقتصر على القراءة وحدها، وبالتالي ليس شرطًا أن يكون من لا يعتمد على القراءة اليومية يكون غير مثقّف، بل قد يكون، في بعض الأحيان، أكثر ثقافةً ممن يعتمد القراءة في برنامجه اليومي.

اليوم ومع تقدّم وسائل المعرفة، لم يعد ممكنًا حصر الثقافة في القراءة فقط، كما أن الناس بطبيعتهم يختلفون في مصادر تلقّيهم للمعلومة، فهناك من تكون القراءة مصدره الأساس، وهناك من يكون السمع مصدره الأساس، ومن هنا لا يُمكن تجاهل الدور المحوري للمصادر السمعية بوصفها منبعًا أساسًا للثقافة. ولم يقتصر الوحي الإلهي في توجيهه للإنسان على الثقافة المقروءة فحسب، بل أكّد أيضًا على قيمة الاستماع الواعي، فقال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} “الزمر، 18″، وفي آيةٍ أخرى أشار سبحانه إشارةً ضمنيّةً إلى أثر الثقافة المسموعة في الوعي الإنساني، فقال تعالى: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} “الحاقة، 12”.

ثم إن التقدم التقني أتاح مصادر الثقافة السمعية لتكون في متناول الجميع، وبإمكان أي فردٍ يسعى لاكتساب المعرفة والثقافة أن يجد له المنبع الذي يُغذّيه بها. الثقافة المقروءة، كذلك في الثقافة المسموعة، ينبغي للإنسان أن يُحسن اختيار ما يقرؤه أو يسمعه، وأن يعي الجهة التي يتلقّى عنها.

ويؤكد خبراء التنمية البشرية أن المعلومة المقروءة تصل إلى فهم المتلقّي بنسبة 7%، بينما تصل المعلومة المسموعة بنسبة 38%، في حين تصل المعلومة المشاهدة بنسبة 55%، وهو ما يكشف أهمية الثقافة المسموعة في مقابل الثقافة المقروءة، وعن القوّة التأثيرية للثقافة المشاهدة مقارنةً بهما.

ومن هنا نجد اليوم أن كثيرًا من المثقّفين والمفكّرين يحرصون على إنتاج مصادر مسموعة لأفكارهم وكتاباتهم إلى جانب المصادر المقروءة، إيمانًا منهم بأهمية الثقافة المسموعة، بل إنّ كثيرًا من نتاجهم المقروء لم يكن في الأصل سوى تحويلٍ لمحاضراتٍ قُدّمت مسموعةً أو مشاهدةً إلى نصوص مكتوبة.

كما أنّ تطوّر العمل الفني أسهم في تقديم الكثير من القضايا الدينية والتاريخية والاجتماعية في قالبٍ بصريّ، كالأفلام والمسلسلات، وهي – بلا شك – توصل الرسالة إلى المتلقّي بنسبةٍ أكبر ممّا تفعله الكتب المقروءة وحدها.

وهذا لا يقدح في مكانة الثقافة المقروءة ولا في كونها منبعًا رئيسًا للثقافة، غير أنّه يفتح الأفق نحو فهمٍ أوسع لمفهوم الثقافة، بحيث لا ينحصر في جانبٍ واحدٍ دون سائر الجوانب.

ومن هنا على كل مفكّر حين يُخاطب الجماهير بعنوان الثقافة أن يضع نصب عينيه هذا التنوع في مصادرها، كي لا يُقصي شريحةً واسعة من المجتمع تعتمد في تكوينها الثقافي على مصادر أخرى غير القراءة.

ويُضاف إلى ذلك أن الأحداث المعاصرة التي يواكبها الإنسان لحظةً بلحظة، هي الأخرى تمثّل جانبًا معرفيًّ وثقافيًّا مهمًّا، كما أنّ التجربة الذاتية للإنسان تمثّل هي الأخرى منبعًا ثقافيًا أساسيًّا، قد لا يتحقّق لغيره، وقد أشار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب “عليه السلام” إلى هذه الحقيقة بقوله: ((وفي التَّجارِبِ عِلمٌ مُستأنَف)).

وختامًا، إنّ الثقافة، في جوهرها، تُمثّل حصيلة تفاعل الإنسان مع مصادر المعرفة المتعدّدة التي تحيط به؛ قراءةً، وسماعًا، ومشاهدةً، وأحداثًا معاصرة، وتجربةً ذاتية. وحين نُعيد تعريف المثقّف على هذا الأساس، فإنّنا لا نُسقط قيمة القراءة، بل نُعيدها إلى موضعها الطبيعي ضمن منظومة أوسع من الوعي. فالمثقّف الحقيقي ليس من يُكثر من الصفحات التي قرأها، بل من اتّسعت مداركه، ونضج فهمه، وارتقى وعيه، أيًّا كان الطريق الذي قاده إلى ذلك. وهكذا يصبح «مثقّف بلا قراءة» توصيفًا لفهمٍ جديد للثقافة، لا نفيًا لها، ولا انتقاصًا من أحد منابعها.

زر الذهاب إلى الأعلى