مقالات

الثبات الانفعالي .. دراسة وتحليل [2]

🖋️تركي العجيان 1 / 9 / 1441هـ
▫️▫️▫️▫️▫️▫️▫️▫️▫️▫️▫️

في إحدى أروقة المستشفى، وأمام شبّاك الاستعلامات وقف (محمدٌ) يسأل عن تقريرٍ طبي كان قد طلبه من قسم التقارير الطبية بالمستشفى، فأخبره الموظّف بأن يأتي في يومٍ آخر لأن التقرير لم يجهز بعد.
وهنا نظر (محمدٌ) إلى الموظّف نظرةً غاضبةً، وطلب منه أن يلتقي بالمدير المسؤول حالاً، وهو في حالة انفعالٍ شديدٍ جداً، لدرجة أن الموظّف خشي على نفسه من شدة الغضب الذي شاهده في وجه (محمد).

مثل هذا الموقف قد يتكرر كثيراً في الدوائر الحكومية، أو في المؤسسات التجارية، أو في المحافل الاجتماعية، أو في الطريق العام، أو في المنازل أيضاً.

فلماذا نجد لموقفٍ ما ردود أفعالٍ غاضبةٍ لدى البعض، بينما نجد البعض الآخر يُبدي ردود أفعالٍ هادئةٍ لذات الموقف؟

وهنا قد يُلقي البعض بالسبب إلى الأخلاق التي يتحلى بها الإنسان، فمن كانت أخلاقه حسنة وحميدة، فإن ردود أفعاله هادئة، ومن كانت أخلاقه سيئة فإن ردود أفعاله تكون انفعالية وغاضبة. وهذا الرأي وإن كان يحمل جزءً من الحقيقة إلا أنه لا يعكس دائماً الصورة الواقعية، ولذا علينا أن نقرأ ردّات فعل الآخرين قراءة شمولية، وليست قراءة ضيّقة محدودة.

وهنا أقول: هناك ثلاثة دوائر (عضوية ونفسية وذهنية) تتفرع من كلٍّ منها عدة عوامل تؤثر على انفعالات الإنسان وردود أفعاله، فحين نُشاهد مشهداً انفعالياً لأحدهم كالذي حصل مع (محمدٍ) في المستشفى لا ينبغي أن نحكم عليه بلحاظ الموقف الذي حصل فيه الانفعال فقط، وإنما إذا أردنا أن نكون منصفين معه علينا أن نلحظ التداخل الحاصل بين الدوائر الثلاث بعواملها المتعددة، وعندها فقط يمكننا تقييم الموقف، وقد نعذر (محمداً) بدل أن نواجهه بسيلٍ من الاتّهامات في أخلاقه وسلوكه والتي قد تعبّر عن قصر وعيٍ وإدراكٍ لحقيقة الموقف بجميع أبعاده.

والآن نتساءل ما هي العوامل ضمن تلك الدوائر الثلاث، والتي تؤثر تأثيراً مباشراً على انفعالات الإنسان وردود أفعاله؟

أولاً- العوامل العضوية.

هناك قاعدة مهمّة تقول: العقل والجسم يؤثّر كلٌّ منهما على الآخر. فحين يكون الجسم سقيماً فلا تتوقّع من العقل أن يُمارس دوره بشكلٍ طبيعي، بل إن الألم الذي يُصيب الجسم سيكون له تأثيرٌ كبيرٌ على حركة العقل لدى الإنسان.

فإذا كانت هذه المعادلة سارية المفعول بما يتعلّق بالأمراض الطارئة، فما بالك بالأمراض المزمنة! ولذا ينبغي علينا أن نحكم على ذوي الأمراض المزمنة بخلاف حكمنا على غيرهم ممن يتمتّعون بالصحّة والسلامة منها، فمرضى فقر الدم المنجلي والضغط والسكّري والقلب والقولون العصبي، وغيرهم قد تنتابهم حالات انفعالية غاضبة عندما تزداد حدّة المرض عليهم، وفي هذه الحالة ينبغي أن نُشفق عليهم بدلاً من عتابهم واتّهامهم بشتى أنواع الاتّهامات غير الدقيقة.

كما ينبغي علينا أن نستوعب الظرف الذي يعيشون فيه، كي نتمكّن من التعامل معهم بشكلٍ سليم يُجنّبهم ويُجنّبنا تبعات تلك الانفعالات الغاضبة.

ثانياً- العوامل النفسية.

لا تقف المسألة فقط عند حدود الآلام الجسدية لإحداث تغيير في ردود أفعال الإنسان، بل إن الحالة النفسية لها انعكاسٌ كبيرٌ أيضاً.
وهنا لا أحكي عن تلك الأمراض النفسية مثل الاكتئاب، والوسواس القهري، وانفصام الشخصية، وغيرها من الأمراض النفسية، فهي تحتاج إلى معالجة من قبل مختص، وهو ليس مدار بحثنا.

ما أقصده هنا بالعوامل النفسية تلك المتمثّلة في الحالة التي يعيشها الإنسان في اللحظة الراهنة، فحين يكون الإنسان مسروراً سعيداً فإن ردّة فعله بالتأكيد ستكون مختلفة عمّا لو كان حزيناً؛ وحين يكون مزاجه متعكّراً لن يتصرّف كما لو كان مزاجه رائقاً؛ وحين تكون الأجواء الخارجية التي تُحيط به تبعث على الراحة والهدوء، فإن سلوكه سيختلف تماماً عما إذا كانت تلك الأجواء تُسبب له ضغوطاً نفسية قد تنفجر في أي لحظة ومع أي استفزاز.

وقد يكون الانفعال نابع من حالةٍ نفسيةٍ سلبيةٍ تجاه الآخر، من قبيل الحقد أو الكره أو العداوة المبطّنة، وهذه الحالة لا تنكشف للعيان إلا من خلال ردّات الفعل الانفعالية أو الطاقة السلبية التي تنبعث من أحدهم تجاه الآخر، ولا يستشعر تلك الطاقة إلا من يمتلك وعياً حقيقيّاً بالآخر، ومَلَكَة خاصّة تُؤهله لذلك.
وقد تكون حالة الانفعال ناتجة من حبٍّ شديد، أو غيرةٍ مُفرِطة تُرجِمَت بطريقةٍ سلبية.

وخلاصة القول في هاتين الدائرتين، أن الحالات الانفعالية التي نُشاهدها ينبغي أن نقرأها بلاحظ الجانب الجسدي (العضوي) للإنسان، وكذلك بلحاظ الحالة النفسية، لنُدرك السبب الذي يقف وراء تلك الانفعالات. وبالتأكيد ليس مبرراً للإنسان مطلقاً أن يتّخذ هذه العوامل ذريعةً لسلوكه الانفعالي المؤذي أحياناً، بل ينبغي عليه أن يتوجّه بإرادةٍ نحو المعالجة الحقيقية، إلا أنه حين تخونه الإرادة نحو المعالجة فعلينا أن نكون عوناً له لا عليه.

ويبقى أن نتساءل: ماذا عن تلك العوامل المرتبطة بالدائرة الذهنية؟ وهل المقصود بها التفريق بين من يفقد عقله، ومن يمتلك عقلاً سليماً؟ وهل هي التي ترسم بدّقة درجة الانفعال لدى الانسان أم أن دورها ثانوياً؟

كل هذه الأسئلة أتناولها في المقال القادم، فكونوا معي.

اترك تعليقاً

نص التعليق

زر الذهاب إلى الأعلى