مقالات

تأمّلات في قانون الطاقة

✍️ حسين المحروس

ربما سمعت أهل الفيزياء يقولون ان الطاقة لا تفنى ولا تنعدم ولا تُستحدث من العدم, بل تتحول من شكل الى اخر وان مقدار الطاقة الناتجة يساوي مقدار الطاقة المتحولة. نفس هذا الكلام يطبقونه بتفاصيله على المادة, من زاوية التناسخ والتمازج بين المادة والطاقة, مع ان كل مادة طاقة وليس كل طاقة مادة.

وبالمقابل فان في تراثنا الإسلامي هذه الآية الكريمة: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾, مضافا اليه هذا التوضيح من الزهراء عليها السلام بانه قد (ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها).

نريد هنا ان نقارن بموضوعية وحياد, أفق التوافق والتباين بين المدرستين, بغية رفع اللبس عمن يظنّ أنّ ما بين الاتجاهين تكمن ثمة خصومة، وأنّ أحدهما مناقض للآخر.

التأمّل الهادئ يكشف أنه واقعا لا يوجد خلاف في كنه المفهوم والتعريف، انما التباين منحصر في مقدار زاوية النظر، وفي مستوى التطبيق.

بالالتفات الى ان قانون بقاء المادّة والطاقة من جهة انه لا يمثل في جوهره بيانًا ميتافيزيقيًا، وانه لا يرتقي الى الادّعاء بأزلية الكون. على العكس فإنّه يسعى للتمحور حول وصف ديناميكي لسلوك الأشياء داخل النظام الكوني القائم اصلا. بمعنى ادق, ما دامت قوانين الكون تعمل، فإنّ الطاقة لن تختفي، هاهي ذي في تحوّل وحركة جوهرية دائمة؛ وبهذا القيد فإن المادّة لا تزول، بل على العكس من ذلك اننا نجدها تنتقل من صورة إلى أخرى, مع بقاء مفهوم ابتداع وديمومة وفناء المادة كمحصلة وكنتيجة طبيعة لهذا الكم من التحول والتحور والتمحور الشكلي الخارجي.

على سبيل المثال, مع ان الخشب يحترق فانه بالطبع لا يفنى، يصير حرارةً، وضوءًا، ورمادًا، وغازًا. والجسم لا يختفي بالموت، مع كون عناصره قد تحلّلت، الا انها تعود إلى الأرض التي كان قد خلق منها (منها خلقناكم وفيها نعيدكم تارة اخرى). نتمنى ان يتضح للقارئ العزيز الان ان معنى الفناء هنا بعيد عن كونه عدمًا مطلقًا محضا، اذ هاهو يتمظهر في تبدّل الوظيفة والصورة الخارجية مع البقاء والمحافظة على اللب والجوهر.

بالمقابل فان آيات القرآن الكريم، تتجاوز الحديث عن التحوّلات الواقعة داخل النظام نفسه، لتنتهي بالإشارة الى مصير النظام برمته. حين يقرر ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾، عندها يتخطى نقاش الكيمياء والفيزياء، الى وضع خطًّ فاصل بين ممكن الوجود (وهو جميع المخلوقات) وواجب الوجود (وهو الله سبحانه وتعالى).

معضلة الفيزيائيين هي انهم يدورون في فلك محصور بحدود الكون، لذلك بالنسبة لهم وهم يقبعون في اسر هذا الظرف الكوني الضيق ساغ لهم القول مجازا بان لا شيء يضيع او يفنى. على الضفة الاخرى فان أطر القرآن الناظرة الى كل ما اشتمل عليه عنوان انه مخلوق لله عز وجل بما في ذلك الكون نفسه، فانه لا شيء يبقى, وان كل موجود فهو صائر الى زوال, وبهذا تتلاشى الشبهة.

في الوقت الذي يصف فيه قانون الطاقة ما يحدث من تحولات بعد الانفجار العظيم، تقرأ قول الحق سبحانه ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، مقررا ان مصدر الابتداء والخلق هو ذاته سبحانه. اوجد الكون في تلك اللحظة التي لم يخلق فيها بعد اي نظام او قانون، ثم كان كل شيء بقدرته وحكمته. وعليه نلخص فنقول بأنّ قولهم بان الطاقة لا تُستحدث من العدم، كلام صحيح في خصوص حيطان المختبر، مع افتقاره لاي سلطة في تبيين حوادث ومتعلقات ما قبل بداية نشأة المختبر نفسه. انظر للعلم وهو يبرز عجزه عن ان يوجد أي نوع من اشكال طاقة يوجدها من العدم, مع نفيه الادعاء بان الطاقة لم تُخلق أصلًا.

إنّ عجز العلم عن الاستحداث هو في حد ذاته شاهد على الافتقار, فالكون نظام مغلق، لكنّه ليس قائمًا بنفسه. قوانينه تحفظه وتسيره طبقا لسنن الله في الكون، ولكنها لا تستطيع ان تُنشئه من لا شيء. ثم إنّ الهلاك في الآية لا يعني العدم العدميّ كما يتصوّره الذهن المادّي، بل يعني الزوال عن الاستقلال عن الله. أي ان كل ما سوى الله فوجوده متعلق على الله، محتاج الى الله، مؤقّت ومفتقر لله، حتى وان استطال به العمر ازمانا ودهورًا.

الطاقة نفسها, وهي متجللة في أبهى صورها، لا تمتلك الادعاء بأنها باقية بقاء ذاتيا. على العكس تماما فهي محكومة، مضبوطة، مسخّرة, تتحرّك بأمر الله، وتتوقّف عند نهيه، وستفنى منظومتها وستتلاشى كأن لم تكن, في الوقت الذي يريده الله, عندما يحين اجلها المسمى.

هكذا يتجلّى لك الفرق الدقيق والجلي بين الفيزياء التي تأطر البقاء الوظيفي، وبين المدرسة القرآنية الناظرة الى البقاء الوجودي.

الأوّل بقاء في الصورة والشكل، والثاني بقاء في عين الحقيقة, من دون أدني تنازع بين النظرتين.

ختاما نقول, مع ان الطاقة لا تفنى داخل الكون, وبسبب ان الكون نفسه ليس واجب الوجود, ترتب على ذلك ان كل ما كان ممكنًا، فهو هالك من حيث ذاته، وانه لايزال موجودا قائما مادام مستمرا بتلقي الفيوضات الوجودية من الله سبحانه.

زر الذهاب إلى الأعلى