مقالات

العقل بين الدماغ والذكاء الاصطناعي- من محاكاة المادة إلى نور الوعي

✍️ تركي العجيان

سؤالٌ يتبادر إلى الأذهان هل نملك حقًّا أكثر من عقل؟ أم أن ما يسمى بالعقل الباطن مجرد وهمٍ لغويٍّ لفهم ما لا نعيه؟

العقل الباطن والحقيقة المغيّبة ( )

كثيرًا ما يُتداول مصطلح “العقل الباطن” حتى صار عند البعض سرًّا غامضًا يقف وراء أفعال الإنسان وقراراته. غير أنّ الحقيقة ليست كذلك؛ فالإنسان لا يملك سوى عقلٍ واحد، وما يُشار إليه بالعقل الباطن إنما هو توصيف لعمل دماغ الإنسان الذي يواصل عمله بلا توقف، حيث يُعالج البيانات المخزّنة ويبحث في أعماق الذاكرة، سواء كان الإنسان حاضر الذهن أو غائبًا عنه. ولهذا جاء التعبير عن “العقل الباطن” كمحاولة لتفسير هذا النشاط الخفي للدماغ.

ولعلّك جرّبت يومًا أن تبحث عن حلٍّ لمشكلة وأعياك التفكير، ثم تركتها جانبًا وظننت أن الأمر انتهى، لكن فجأة يسطع الحل في ذهنك كما لو جاء من حيث لا تدري؛ فما الذي حدث؟ إن دماغك لم يكن نائمًا، بل ظلّ يعمل في الخفاء يفتّش في ملفاتك القديمة، ويجمع الخيوط المتناثرة حتى قدّم لك الجواب في لحظة غير متوقعة. إنه الصديق الذي يواصل العمل من أجلك، حتى حين تظن أنك استسلمت.

غير أن هذا الصديق لا يفرّق بين الصواب والخطأ، ولا بين الحق والباطل، ولا بين الجيّد والرديء، فهو يتلقّى كل ما يُزرع فيه دون تمييز؛ فإن غذّيته بأفكار إيجابية وأهداف سامية، أعانك على بلوغها، وإذا ملأته بالشكوك والخواطر السوداء، أعاد إليك ظلامها.

من هنا كان لا بدّ أن يتقدّم العقل — ذلك النور الإلهي — ليبقى القائد والمرشد، الذي يوجّه الدماغ ويهذّب نشاطه، ويحوّل طاقته الخفية إلى قوة تبني حياة الإنسان بدل أن تهدمها.

وكما يُساء فهم نشاط الدماغ فيُسمّى عقلًا باطنًا، يُساء أيضًا فهم العلاقة بين العقل الإنساني والذكاء الاصطناعي، فيُظن أن الآلة يمكن أن تُضاهي النور الإلهي في الإنسان.

بين العقل والذكاء الاصطناعي

ضجيجٌ واسع يملأ العالم نتيجة الثورة المعلوماتيّة والتقدّم التكنولوجي الذي أحدث صرخةً غير مسبوقة؛ فقد ارتقى الإبداع البشري إلى مستوى يكاد يفوق التصوّر، حتى صار عصرنا يُسمّى عصر الذكاء الاصطناعي. وهنا تتسرّب إلى الأذهان فكرةٌ مضلِّلة، توحي بأن الذكاء الاصطناعي أصبح ندًّا للعقل الإنساني. وهذه المفارقة خاطئة بامتياز؛ فالذكاء الاصطناعي من جنس المادة، أما العقل الإنساني فهو مخلوق وجداني، خلقه الله تعالى نورًا يهتدي به الإنسان، فلا مجال أبدًا لأن يُقارن العقل بالآلة أو يُوضَع في كفّةٍ واحدة معها.

نعم، الذكاء الاصطناعي يمثّل محاكاةً مدهشة للدماغ البشري، وقد نجح إنسان هذا العصر في تطوير هذه المحاكاة إلى حدٍّ أذهل حتى الذين صنعوها، إذ وقفوا متحيّرين أمام ما أنتجته برمجتهم من قدرات غير متوقعة. لكنه، مهما بلغ، يظلّ مجرّد أداة مبرمجة، تفتقد الوعي والبصيرة التي يختصّ بها العقل الإنساني.

ولأن العقل هو القائد الأعلى للوعي، فقد كان لا بد أن نعرف كيف يمارس هذا النور الإلهي دوره في قيادة الإنسان.

الدور القيادي للعقل

يبدأ الإنسان حياته كأرضٍ خالية، ثم تتراكم في ذهنه الأفكار والخبرات من محيطه الخارجي ومن تجربته الذاتية. وفي هذه المرحلة يبقى العقل رهينًا للتأثيرات المحيطة به، فيسير الإنسان وفق توجيهات البيئة التي يعيش فيها؛ حتى يبلغ الرشد وتكتمل طاقاته، فيبدأ دور العقل الحقيقي في قيادة الإنسان وضبط مساره.

وللعقل في هذه القيادة أدوار أساسية ثلاثة( ):

أولًا- التوجيه .. بوصلة التفكير

أول مهمات العقل أن يمسك بزمام الدماغ ويوجّه عملية التفكير. فإذا غاب العقل أو غفل، تشتّت الذهن بين المؤثرات الداخلية والخارجية، وضاعت بوصلة التفكير. لذلك كان العقل هو الضامن لأن يظل التفكير في اتجاهه الصحيح، خصوصًا في اللحظات المصيرية التي تتطلب وعيًا حاضرًا، مثل الخشوع في الصلاة أو اتخاذ قرار يغيّر مسار الحياة.

ثانيًا- التمييز .. عين البصيرة

بعد أن ينجز الدماغ عملياته في معالجة المدخلات، يتدخل العقل ليقوم بعمله الأسمى: تمييز الحق من الباطل، والخير من الشر. غير أن العقل في بدايات الطفولة لا يكون قادرًا على التمييز استقلالًا، لكنه مع النضج يكتسب القدرة على الحكم الذاتي. ومع ذلك، يظل هذا التمييز متأثرًا بما اكتسبه الإنسان من خبرات في طفولته، مما يكشف الحاجة الدائمة إلى الهداية الإلهية وإرشاد الأنبياء والأوصياء والمصلحين.

ثالثًا- التبيين .. الطريق إلى النور

بعد التوجيه والتمييز، يتولى العقل مهمته النهائية بتبيين الطريق للإنسان، فيضعه أمام خيار واضح؛ إما اتباع الحق أو الانزلاق في الباطل. غير أن الإنسان قد يُجرّد العقل من هذا الدور القيادي، فيستسلم للهوى أو يضلّه الشيطان، فيفقد العقل دوره التوجيهي، وتضطرب المسيرة؛ وقد حذر أمير المؤمنين (عليه السلام) من هذه الحالة حيث قال: ((كَمْ مِنْ عَقْلٍ أَسِيرْ تَحْتَ هَوَىً أَمِيرْ))( ).

شهد الكلمات

وهكذا، يتجلّى لنا أن العقل ليس فكرةً عابرة، ولا مجرد أداة تفكير، بل هو جوهرٌ إلهيّ خُصّ به الإنسان دون سواه، ليكون حجّته الباطنة ونوره الهادي في مسيرة الحياة. فهو الذي يوجّه الدماغ في حركة التفكير، ويميّز بين الحق والباطل، ويبيّن للإنسان طريقه بين دروب الدنيا ومصائر الآخرة.

ومهما تقدّمت أدوات المعرفة أو توسّعت آفاق التكنولوجيا، ومهما أبدع الإنسان في صناعة الذكاء الاصطناعي، فإن كلَّ ذلك يبقى ماديًّا محدودًا، بينما يظلّ العقل نورًا يتجاوز حدود المادة، ويمنح الوجود الإنساني معناه العميق.

إن حضور العقل في الذات الإنسانية هو أعظم هبة، غير أن قيمته لا تُقاس بمجرد وجوده، بل بكيفية استثماره. فمن جعل العقل قائده، ارتقى بوعيه إلى مدارج الكمال، ومن أهمله أو أسلمه للهوى، عاش في ظلامٍ وإن أحاطته الأضواء.

فالعقل هو الحاضر المجهول؛ مَن كشف دفائنه ملك ناصية ذاته، ومَن غفل عنه ضيّع الطريق، وضاع في زحام الحياة؛ ومن أنار عقله بنور الله، أضاءت له دروب الحياة، ومن تركه في الظلمة، ظنّ أنه يرى، في حين أنه لا يرى.

فمن محاكاة المادة إلى نور الوعي، يبقى العقل سرًّا إلهيًّا لا تدركه الآلة ولا تُحاكيه البرمجة.

زر الذهاب إلى الأعلى