قال الناس عنه .. المرحوم الأستاذ محمد أحمد آل عيد
زكريا أبو سرير
إن المهمة الصعبة التي قد تواجه كل إنسان في هذه الحياة هي كيف يكون أنموذجا صالحا في حياته، حيث إن البحث عن الكمال مطلب وجداني في أعماق الإنسان، فهو من يرسم ويشكل حياته الإنسانية والحياتية والمهنية. وكما أعلم، وقد يتفق معي الكثير من القراء الكرام، إن أصعب المهن الحياتية هي كيف تصنع إنسانا صالحا تقدمه للمجتمع لكي يكون نموذجا يهتدى به إلى طريق الصلاح والإصلاح، فتظفر أسرته وعائلته ومجتمعه ووطنه بإنسان صالح وقوي فكريا وجسديا وذهنيا وخال من العيوب والمعوقات النفسية والحياتية.
فإذا صلح المربي والمعلم صلح معه المجتمع وصلح الوطن وصلحت كل المهن الحياتية، أي صلح المهندس وصلح الطبيب وصلح التاجر وصلح الموظف وصلح العامل وصلح المزارع؛ لأن التربية والتعليم ركيزتان رئيستان لتأسيس بيئة اجتماعية صالحة ووطن يعتز بأبنائه.
هنا نقف وقفة تأمل في المسيرة التربوية والتعليمية للمرحوم المعلم محمد أحمد آل عيد، أبي فارس، رحمه الله، كيف كانت من خلال أقوال المجتمع وأبنائه لا من قول الكاتب؛ لأن الكاتب قد تكون شهادته مجروحة، لا أقل عند من يعرف بأن الكاتب هو خال المرحوم، والخال كما يعبر عنه أحد الأبوين، فمن ثم لو مدح أو أثنى الأب على أبنائه فلا تعتبر شهادة محايدة أو قريبة للواقع؛ لأن الآباء والأمهات يرون أبناءهم دوما هم الأفضل والأجمل والأروع وإن كانوا غير ذلك لا سمح الله، ولكني سأتناول ما قاله لسان الناس عنه، وبهذا أكون قد نقلت الصورة الواقعية لا الصورة الخيالية أو المزيفة التي يحبذها النرجسيون البعيدون عن الواقع.
منذ بزوغ فجر يوم السبت الموافق ٢٥ لشهر رجب المرجب الأصب أو قبل ذلك الوقت لم يتوقف رنين هواتف العائلة من مختلف الطبقات الاجتماعية كلٍّ حسب منطقه وأسلوبه، والنية كانت بكل تأكيد صادقة ونبيلة، بل وفي غاية النبل والرجاء. كان أملهم بأن الخبر غير صحيح حين كان سؤالهم الرحيم: رجاء أحبتنا قولوا لنا ماذا حصل لأبي فارس، بل كذّبوا لنا هذا الخبر السيئ والمفجع والمزعج، وكان ردنا لهم هذا قضاء الله وقدره ورضينا به، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وعظم الله أجوركم وأجورنا. نزل الخبر عليهم كالصاعقة قبل أن يكون كذلك على أهله، فبدأت تتفجر عيونهم براكين من الدموع وخيّم الحزن عليهم، وكأن المفقود واحدا من أبنائهم تماما لا مجرد مربٍّ أو معلم أو صديق، بل كان لهم أخا وأبا وصديقا ومربيا ومعلما وموجها، هذا بعض ما نقله الناس عن صفاته ونبل أخلاقه ومحياه لهم وإلى أبنائهم من الطلبة الأوفياء.
وهنا نتذكر قول أمير الشعراء أحمد شوقي في وصفه للمعلم وما يحمله من قدر كبير في نفوس المجتمع حين قال: قم للمعلّمِ وَفِّهِ التبجيلا … كادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولا.
وقد قال الناس عنه.. وفق ما يحمله هذا المقطع من قول أمير الشعراء، وما كان يعني الشاعر في حق المعلم من مضامين رسولية وإنسانية عالية كانت مرسومة ومخطوطة على شخص المرحوم الأستاذ أبي فارس قولا وفعلا.
وقال الناس عنه كذلك عند أدائه شعيرة العمرة الرجبية لهذا العام ١٤٤٦ هجري، وقبل وفاته بأسبوع تقريبا، حيث إن أبا فارس عرف بالتزامه الديني وواجباته الدينية المكتوبة والمباحة. كان أحد الكوادر الذين قاموا بخدمة المعتمرين والسعي لراحتهم وتسهيل أمور مناسك العمرة الرجبية عليهم بكل جد وإخلاص دون كلل أو ملل، بل كانت ترف عليه مشاعر السعادة والشكر والحمد لربه على هذا التوفيق حين وفق لخدمة ضيوف الرحمن، فما بعد هذا التوفيق الإلهي والمبارك إلا الرضا من خالقه سبحانه وتعالى.
وقال الناس عنه.. لم نجد منذ فترة طويلة في بلدتنا مثل هذه الحشود من المشيعين التي غطت نواحي المقبرة بأكملها وكأنهم فوج من الجراد المنتشر في السماء بين ناحب وباكٍ ولاطم على وجهه ورأسه، ومترحم وقارئ ما تيسر له من كتاب الله الحكيم، وبعض الأصوات حزينة تردد بينها وبين أنفسها: جزاك الله عنا وعن أبنائنا كل خير يا أبا فارس، وفّيت وكفّيت وكنت نعم المعلم ونعم والمربي ونعم الأب لأبنائنا.
قال الناس عنه.. ابتسامته وضحكاته لا تفارق وجهه، وهي عنوان محياه الدائم لكل من يلتقي به، سواء كان كبيرا أو صغيرا، وهذا شيء من سر محبة الناس له، بل هو بسبب ما يكشفه صالح باطنه قبل خارجه وإرث أخلاقي كبير ورثه من أبويه، فهما يحملان هذه الصفة الإنسانية الرائعة نفسها.
قال الناس عنه.. قد شهدت أيام العزاء منذ اليوم الأول حتى قرابة نهايتها فوجا كبيرا من المعزين من مختلف المناطق ومن مختلف الأعمار والطبقات الاجتماعية والدينية والثقافية والفكرية، فوجا يدخل وفوجا يخرج، حتى سبب طول انتظار بعض المعزين لأهل المرحوم شيئا من الحرج؛ لأن البعض منهم كبير في السن، وبينهم المريض، ومن هو آتٍ من خارج المنطقة، و القادم من خارج البلد.. ومنهم ومنهم، ولكن ما كان يهون عليهم ذلك الزحام من المعزين محبتهم للمرحوم وأهله وأقربائه التي ليس لها حدود في قلوبهم، بل ما زالت تلك الحشود من المعزين توفد للعزاء في كل أوقات أيام العزاء، فضلا عن وسائل التواصل الاجتماعي من الداخل والخارج، وهذا نابع من محبتهم للمرحوم وعائلته، وكل منهم مرتبط به، وللجميع منا بالغ الشكر والتقدير والمحبة.
قال الناس عنه.. مقالا بعنوان: وترجل الفارس أبو فارس، بقلم الكاتب الفذ والفنان الكبير والمعلم والمربي صاحب الخلق العالي الأستاذ عبدالعظيم آل شلي، وكان مقالا كالبلسم على قلوبنا حيث أضفى هذا المقال الرائع السكينة على نفوس العائلة من المواساة وعلى نفوس أصدقائه ومحبي المرحوم. للكاتب الموقر الأستاذ عبدالعظيم آل شلي منا كل الشكر والتقدير والاحترام والمحبة والمودة.
يسأل الناس أبا فارس ونحن كذلك نسأل، ما سرّ علاقتك بربك حتى أكرمك الله كل هذا الكرم والمحبة والمودة في قلوب الناس لك، قد رفع شأنك في دنياك قبل آخرتك من مودة ومحبة ومن زخم إلهي مبارك من المعزين والمحبين. قل لنا بربك ما هي عبادتك، ما هي صلاتك، ما هو دعاؤك وما هي مناجاتك لربك، قل لنا بربك وربنا الكريم يا أبا فارس ما هو سر علاقتك بربك، قل، وإن غطى جسدك الطاهر التراب إلا أن روحك الطاهرة سوف تبقى ترفرف حولنا ليلا ونهارا خالدة في قلوبنا وفي صلواتنا ودعائنا ما بقينا.. وداعا يا أبا فارس، رحمك الله يا أيها المربي والمعلم الصالح.