مقالات

نبوءة زينب عليها السلام

✍️فؤاد الحمود

عند قراءة شخصيتها عليها السلام قد يصعب على الكاتب أو الباحث أن يغطي بعض جوانب حياتها أو أدوارها فمراحل حياتها التي بدأت في أحضان رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي والزهراء وبجوار أخويها الحسنين يجعل ذلك إرثاً كبيراً يصعب تخطيه

فلا ضير لو اخترت عنوانا لها بنبوءتها عليها السلام فمن الواضح والجلي انها لها ولاية تكوينية استعملتها حين أرادت إلقاء خطبتها في الكوفة، فقد عبرت الرواية أنها أومأت إلى الناس أن اسكتوا فارتدت الأنفاس وسكنت الأجراس

فحال الكوفة المحاصرة بالعساكر والهتافات والأصوات المرتفعة من الناس وأصوات الأجراس المعلقة على الأبل، في حين المراقبة الشديدة لحركة المجتمع بأن لا يثأر أحد والقضاء على الانتفاضات المتوقعة، بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام

هذا التصرف في الإنسان من احتباس الأنفاس ووقوف الإبل عن الحركة وسكون الأجراس؛ نوع من الولاية

فانطلقت بخطبتها التي تلوم فيها وتصف مجتمع الكوفة وتبين ماضيهم المخزي من الغدر والخيانة المتجذر في زمان أبيها وأخيها الحسن وما لاقاه الحسين من خذلان،

ورغم تظاهر المجتمع الكوفي بالبكاء إلا أنها وصفتهم بالنفاق حين وجهت لهم خطابها أتبكون؟!، وهي تعلم أن رجالهم من باشر في جريمة كربلاء ونساءهم من ربين هؤلاء الرجال الذين فعلوا ما فعلوا.

ولمعرفتها بطبيعة المجتمع الكوفي، حيث شخصت أن الحل الأمثل لعلاج هذا المرض عبر استعمال الأسلوب اللاذع معهم سعياً منها أن توقظ بعض الضمائر، لذا استثمرت القرآن في أداة التشبيه بوصفهم “كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثً”،

وتارة تصفهم كمرعى على دمنة أي محل العشب الذي يسرح فيه القطيع وفيه أرواث الحيوانات؛ فالروث المختلط والمظهر الخارجي فيه من الجمال أما باطنهم ليس فيه إلا النفاق والغدر

ثم تعود إليهم بالتهديد والإنذار وذلك عبر توجيهها لهم “فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا” بالعذاب المستمر وذلك لارتكابهم الجريمة الشنيعة بقتل الحسين عليه السلام

وها هي تذكرهم أي دم سفكتم، إشارة إلى أن سفك دم الحسين عليه السلام ما هو الا سفك لدم رسول الله صلى الله عليه وآله لأن دم رسول الله صلى الله عليه وآله هو دم الحسين الذي يجري في عروقه؛ فالحسين لم يكن رجلاً عادياً ليُسفك دمه وتروع أهله بهذه الطريقة البشعة.

وقد صرح بذلك مرارا وتكراراً رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله: اللهم إن هؤلاء أهل بيتي وحامتي وخاصتي لحمهم لحمي ودمهم دمي يؤلمني ما يؤلمهم ويحزنني ما يحزنهم أنا سلم لمن سالمهم وحرب لمن حاربهم إنهم مني وأنا منهم

ثم استعرضت سلام الله عليها نبوءاتها لمستقبلهم بعد هذه الجريمة العظيمة والتي من الصعب وصف حجمها لذا عبرت عنها بالصلعاء والعنقاء والمراد منهما أي الصلعاء فهي الداهية الشديدة؛ والمراد منها الجريمة المكشوفة التي لا يمكن تغطيتها بشيء، دوالعنقاء الداهية؛ وعنق كل شيء بدايته، وهي إشارة لجملة من الأزمات والويلات للمجتمع الكوفي فتخبرهم بأنهم لا يتوقعوا خيراً بعدها ابداً

فالعذاب سيلاحقكم في الدنيا والآخرة، بل أخبرتهم أنكم لماذا “لا تنصرون” مردفة لهم قائلة “فلا يستخفنكم المهل” أي لن يتأخر عقابكم الدنيوي وإن انتظاركم ما هو إلا سراب مؤقت فأي خير في لذة وراءها النار، فهي تشير أن عدم نزول العذاب الإلهي عليكم ليس سببه الإهمال وإنما الإمهال لحكمة الباري عز وجل واختيار التوقيت المناسب.

هذه نبوءتها لأهل الكوفة أما الشام فكانت في قبال أعلى سلطة للدولة الأموية في زمانها وقد أدت ما عليها من وظيفة شرعية رغم الأسى والألم والضيم الذي لاقته الأسرة النبوية من ظلامات واضطهاد.

فجرأتها في مثل هذه المواقف تدل على عظمتها وبيان حالها كما وصفها المعصوم عليه السلام “وأنت بحمد الله عالمة غير معلمة” ولا عجب من ذلك أن أعتى طواغيت زمانها يزيد لم يستطع الرد عليها بل شعر بالعجز والضعف عن مقاومتها واكتفى بقول الشاعر “يا صيحة تحمد من صوائح”

فابتدأت خطبتها بحمد الله ثم الصلاة على جدها سيد المرسلين لتعرف الحاضرين بأن السبايا هم ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله، لكنه إدعى أنهم من بلاد الكفر والشرك، فتلت الآية الكريمة “ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ” وهو استهلال لعمري ما أروعه من أسيرة ثم ما كان منها إلا مخاطبة يزيد باسمه وهو اعتراف ضمني بأنه ليس أهلاً للخلافة.

فقالت له: أظننت -يا يزيد- حين أخذت علينا أقطار الأرض وضيقت علينا آفاق السماء فأصبحنا لك أسارى نساق إليك سوقا في قطار، وأنت علينا ذو اقتدار أن بنا من الله هواناً وعليك منه كرامة وامتنانا، اشارة إلى التضييق الشديد والحبس.

وتتالت في فضح يزيد وما آل إليه من سلطان وذكرته أنه من أبناء الطلقاء وذلك توبيخا له وأنه أبعد ما يكون عن الفطرة السوية، وتذكيره هل هذا جزاء الاحسان.

مذكرة إياه بأشد العذابات التي سيتلقاها يوم القيامة بأن يتمنى أن يمينه كانت مشلولة ولم يجرؤ على ضرب ثنايا أبي عبد الله الحسين، بل وحتى بعد أن اضطر وأظهر الندم والبكاء لم تعطه الفرصة بل صعدت في خطابها ومن لهجتها عبر كشف الحقائق وقالت: وسيعلم من بوّأك ومكنك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بدلا وأيكم شر مكانا واقل عملا، ثم تردف قائلة لئن جرت علي الدواهي مخاطبتك إني لاستصغر قدرك واستعظم تقريعك.

فانبرت بعدها بكل عنفوان تبين المستقبل ليزيد ومستقبل العترة الطاهرة فنادته قائلة: لا تدرك أمدنا ولا تبلغ غايتنا ولا تمحوا ذكرنا، مما جعل من يزيد يلقي اللوم على ابن زياد ويلعنه وأنه من قتل الحسين من تلقاء نفسه لكن محاولته باءت بالفشل، مع وجود عقيلة الطالبيين بتوجيهها له: وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد وجمعك إلا بدد يوم ينادي المنادي ألا لعن الله الظالم المعادي.

هذه محاولة لقراءة من خطبتي عقيلة الطالبيين في الكوفة والشام واستنطاق واستظهار بعض ما يمكن الإشارة إليه بغية الاختصار وإلا فالخطبتين تحتاجان إلى بحوث معمقة ومفصلة تبياناً لآثار ومكان أهل البيت عليهم السلام .

اترك تعليقاً

نص التعليق

زر الذهاب إلى الأعلى