في عاشوراء الكتاب يوزع مجانا ولا يباع
زكريا ابو سرير
موسم عاشوراء معني بذكرى سيد الشهداء وحبيب الله و رسوله المصطفى محمد ( ص) ابي عبدالله الحسين عليه السلام، هذا الموسم يعبر عنه المسلمون الشيعة وغيرهم بتفجير الطاقات الذاتية والفكرية والنفسية والروحية ، حيث تجد في هذا الموسم برغم قصر أيامه التي لا تتعدى العشرة أيام، تبدأ من اول شهر محرم الحرام حتى نهاية اليوم العاشر من نفس الشهر من كل عام هجري، ولكن الانجازات الحاصلة في هذه العشرة لا تُعد ولا تُحصى ، و العبرة في الكم لا في الكيف، وهنا تكمن الكرامة الإلهية في هذا الموسم القصير و المدة المتواضعة التي نرى فيها هذه المجموعة من الانجازات الكبرى ما لا نراه طوال العام من الانجازات و الإبداعات، من الخطب الثقافية والدينية والتوجيه وزيادة البرامج والمباحثات الثقافية و الكتابة من الكتاب والمثقفين من مختلف التوجهات و الاديان و الثقافات، والسعي الكثيف في خدمة عموم الناس والمجتمع تطوعا دون تحصيل اي مقابل و في مختلف المجالات الخدمية و المتعددة ، و لا يقتصر على جانب تقديم الخدمات بل تجد علوا في مستوى الهمة الروحية وشحذ الهمم عند غالب المتأثرين بالثقافة الحسينية الى درجة ملفتة مستمدة من روح الثقافة الحسينية و بطل هذه الأيام المباركة الإمام الحسين عليه السلام.
الكتاب الثقافي يُعد أهم قنوات العلم وواحد من أهم روافد المعرفة منذ عرف الإنسان الكتابة وسوف يظل اهم قناة لمختلف العلوم والباعث للتقدم والتطور و الاكتشافات العلمية والفكرية ، و على هذا الأساس ينبغي أن يكون الكتاب سهل المنال ومتداولا بين ايدي كل الناس، و ينبغي أن يكون أرخص سلعة في الأسواق بحيث يكون الجميع قادر على اقتناءه حتى لا تحجب المعرفة أو تحتكر عند فئة دون أخرى .
و في حال كان سعر الكتاب باهض الثمن بحيث يتم التعامل معه كمنتج تجاري أو كسهم تجاري تتلاعب الاغراءات المالية عند أصحاب النفوس غير المسؤولة، فيصبح الكتاب سلعة حاله حال بقية المنتجات التجارية في الأسواق، لتنتفي عندها القيمة المعنوية للكتاب وتتعطل الأهداف النبيلة والإنسانية والفكرية .
وعندما يصبح الكتاب الثقافي صعب المنال، فإن النتيجة هي غياب الكتاب شيئا فشيئاً من بين ايدي الناس، و معني هذا أن المجتمع يؤسس لنفسه مسارا نحو التخلف والرجعية و الانحطاط الفكري، وهذا بطبيعة الحال يجعل المجتمع وأبناؤه يتأخرون عن الركب الحضاري بألاف الأميال قياسا على بقية المجتمعات الأخرى المتقدمة حضاريا وفكريا وصناعياً .
وهنا تستحضرني كلمة رائعة للإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه الله، وهو الذي يُعد من أبرز الكتاب والمؤلفين في القرن العشرين والواحد والعشرين اذ بلغت مؤلفاته حسب إحصاء بعض الكتاب المهتمين بالكتابة و التأليف على مستوى العالم ما يقرب من ألف وخمسمائة كتاب في شتي العلوم و المجالات العلمية والثقافية و الفكرية، وقد رُشح لدخول مجموعة كنيس العالمية بصفته المؤلف العربي المسلم الوحيد الذي يحقق هذا الرقم الفريد في الكتابة و التأليف على مستوى العالم ولم يظهر كاتب حتى هذا الوقت بلغت مؤلفاته هذا الرقم المتميز.
كانت كلمته الجميلة التي سجلها له التاريخ ترمي إلى هذا المفهوم وإلى هذه الغاية التي أشرنا إليها وهي سهولة تحصيل الكتاب حيث قال “يجب أن يكون سعر الكتاب أرخص من رغيف الخبز” وهذا يعني أن المعرفة أو الفكرة لا ينبغي أن تكون حكرا على فئة دون أخرى، بل يجب أن تسود المعرفة بين كل الناس حتى يصبح الجميع متنورا ومثقفا لأجل أن يتحمل الجميع مسؤولية التجديد والتحديث والتنوير، ومن جهة أخرى، الوصول لصناعة مجتمع واع و قوي معتمد على ذاته و طاقاته وأدواته و مساهما في حركة اكتشافات الكون، وهذا الوعي يبعد المجتمع وابناؤه عن ثقافة الاتكالية و العبودية والخمول وعدم الاعتماد على الغير إلى درجة العبودية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.
ما تصنعه هذه العشرة العاشورائية المباركة والاعجازية في الواقع هو أحداث تغيير شامل في سلوك معظم الناس من بث روح العطاء وسمو في حسن الخلق و بروز مجموعة من العلماء و الكتاب والمثقفين المخلصين وأصحاب النفوس الطيبة والابية من الذين حملوا شعلة المسؤولية و الحس الفكري والإنساني والوطني في بدل ما بوسعهم في العطاء الفكري .
اذ ترى هذه المجموعة وهي من تكتب وتؤلف وتطبع وتوزع مؤلفاتها مجاناً و على نفقتها الخاصة ولربما تكون هي بأمس الحاجة إلى هذا المال ، ولكن في سبيل كسب الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى و المساهمة في مشروع النهضة الحسينية و نصرة الإمام الحسين عليه السلام في مشروعه الإصلاحي التاريخي والمستقبلي و في سبيل المساهمة لرفع مستوى الثقافة والمعرفة عند أبناء المجتمع تجدهم يبرزوا وينشطوا بتقديم هذا العطاء الفكري المميز بكل حب ومودة للجميع .
وهنا أشير لبعض الكتاب الكرام الذين رأينا فيهم هذه الهمة وهذا العطاء الكريم منذ عهد طويل وهم مازالوا على هذا المنوال اي في كل موسم عاشوراء ترى بعض مؤلفاتهم توزع مجانا في بعض المجالس والمواكب الحسينية المباركة، و كذلك في موسم شهر رمضان المبارك وبكميات كبيرة ومتنوعة العناوين و الاطروحات الفكرية ، كسماحة العلامة والباحث والمفكر والخطيب الشيخ فوزي آل سيف، و سماحة العلامة المفكر والباحث الشيخ حسن الصفار و والكاتب والباحث والمفكر الأستاذ محمد محفوظ، و سماحة السيد طاهر الشميمي من أصحاب الهمم العالية في تثقيف الشباب و الشابات وقد يكون هناك كتاب اخرين يحملون نفس هذه الهمة والمسؤولية وربما توزع مؤلفاتهم وكتبهم في أماكن أخرى ولكن لا تستحضرني أسمائهم أو ليس عندي علم بهم ولهم منا جميعا جميل الشكر والتقدير .
وهنا ينبغي أن نشير إلى أن سهولة الحصول على الكتاب لا ينبغي أن تكون منحصرة على موسم عاشوراء فقط، بل يجب أن تعمم هذه الثقافة طوال العام ، وما موسم عاشوراء الا داعم ودافع للتذكير بأهمية تعميم هذه الثقافة الواعية و المدركة لأهمية ان يكون الكتاب في يد كل الناس .
وهناك أشير كذلك إلى ثقافة خاطئة يتبناها بعض ذوي الاقلام والفكر أو الجهات التي تحمل شكلا من أشكال الثقافة البائسة في طريقة التسويق للكتاب ،وهي عندما تجد قيمة الكتاب السوقية ذات ثمن باهض ومكلف .
هذه السلوك البائس هو ما عطل رسالة الكتاب الذي قال عنه ربنا “ألم ذلك الكتاب التي لا ريب فيه هدئ للمتقين” أي أنه يعطل مشروع الكتاب وهو الهداية و البصيرة والعلم والتعلم والتنوير ويحوّله إلى سلعة يجني منها المال والأرباح الطائلة، وهذا هو السقوط الحقيقي الذي يهوي بالمجتمع للتخلف والدمار الفكري والتأخر عن ركب الحضارة والصناعة و الحداثة ، لهذا ينبغي مواجهة هذا النوع من الثقافة بالرفض، والتصدي لها بكل ما أوتينا من قوة والسعي لإعادة المفهوم الحقيقي لدور الكتاب، لكي يكون الكتاب متوفرا في اي وقت وفي أي مكان و بسعر ارخص من رغيف الخبز فيكون سهل المنال كرغيف الخبز أو أقل من ذلك، حتى نظفر بمجتمع واع و مثقف ومتميز.