تأمل في حكمة الله
تأمل في حكمة الله
زكريا أبو سرير
قال ربنا سبحانه وتعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ۚ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا) {النحل: ٧٠}.
بمناسبة رحيل فقيه أهل البيت (ع) المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ لطف الله الصافي الكلبايكاني (الگلپایگاني) قدس سره، وددتُ التفكر والتأمل في هذه الشخصية الفذة ومن هو على شاكلته من العلماء الربانيين. بلغ من العمر المبارك وهو في أتم قواه العقلية والدهنية، فتجاوز المئة عام، وهو لازال يجود بعطائه الديني والفكري والثقافي والاجتماعي من دون كلل أو ملل، وهذ ما يجعل الواحد منا أن يقف ويتأمل مليًّا في هذه الظاهرة الإنسانية العجيبة، أليس هذا خلاف ما ذكره ربنا الكريم في كتابه الحكيم في جريان سنته الكونية التي قهر بها عباده عندما يبلغ الإنسان مثل هذا العمر الطويل؟ فيكون كما أشارت الآية الكريمة: (وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّىٰكُمْ ۚ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَىْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍۢ شَيْـًٔا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) {النحل: 70}.
وهنا يأتي سؤال: هل سمع أحد منا أو رأى شخصية علمائية ربانية بلغت من العمر عتيًّا أو كما عبر عنه القرآن الكريم بـ “أرذل العمر” وأصابها الخرف؟ أم أن المراجع (وعلماء الدين) حين يصلون إلى هذه المنزلة الدينية والعلمية يستبعد جريان هذه السنة الكونية فيهم، ولا تشملهم الحالة التي أشار إليها ربنا؟ إذ إنهم يصبحون لا شيء من بعد ما أصبحوا ما عليه من المكانة العلمية العالية في الدراسة والمباحثة والفتوى والكتابة والتأليف، وإذا فجأة يتبخر من رؤوسهم كل هذه العلوم بسبب أنهم بلغوا من العمر مبلغًا متقدمًا؟! بمعنى آخر يصبحون مرة أخرى ضعفاء كما كانوا في طور الطفولة، فالإنسان يخرج من بطن أمه لا يعلم شيئًا وعندما يدخل في طور الشيخوخة المتأخرة يدخل في دورة الحياة الطبيعية فيضعف فيه كل شيء: حركته، قوته، نشاطه، ذاكرته، عقله، وكذلك همته الحياتية، والمهانة الكبرى للإنسان إذا تلفت ذاكرته وهبطت إلى مستوى لا يعلم شيئًا بعد أن كان يعلم أشياء كثيرة، ويتحول هذا الصرح والكيان الفكري الكبير إلى أثر بعد عين، كطفل لا يعقل شيئًا.
هذه السنة الطبيعية الكونية الحياتية تعد المرحلة الأخيرة من حياة الإنسان، وتسمى بمرحلة الشيخوخة قد يصاب فيها الإنسان كما وصفها ربنا: “لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا”، أي فقد المحتوى العقلي وأفرغ ما في العقل من كل شيء، بعد ما كان ذلك العقل مخزونًا مليئًا بالعلم الواسع والحكمة والتجارب الحياتية المتنوعة.
الشريحة العلمائية الدينية التي اكتسبت تحصيلها العلمي من قنوات علوم أهل البيت (عليهم السلام)، ومن اكتسبوا العلوم الدنيوية النافعة كالطب والهندسة وما أشبه نجدهم عندما يبلغون مراحل متأخرة من العمر لا نرى أحدًا منهم يتعرض لحالة الخرف، بل يتعطل عمل هذه السنة الكونية فيهم، وهو المتوقع حدوثه لغيرهم في أي لحظة من حياتهم، فضلًا عن أن النسبة الكبيرة المتوقعة للذين يبلغون الشيخوخة المتأخرة من عامة الناس يصابون بهذا الداء، في حين لا نجدها جارية وفاعلة على علماء أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا الأمر في الحقيقة محير ولافت للانتباه، برغم إيماننا القاطع بهذه السنة الكونية الطبيعية؛ ذلك أن القرآن الكريم قد أفصح عنها بكل وضوح وأخبر بها، و العلم أثبتها، ونحن بالفعل نلمس هذه السنة الكونية وهي طبيعية وجارية ونتوقعها أن تصيب عامة الناس، بل لا نستثني حتى النخب وأصحاب المراكز العليا أو بعض المفكرين.
وهنا ينبغي التوقف والتأمل ونتساءل: لماذا تقف هذه السنة الطبيعية الكونية التي أكد عليها ربنا في كتابه المجيد بكل وضوح بأن هذه هي نهاية كل إنسان طعن في العمر، فلماذا نستثني جريانها على هذه النخبة من علماء الدين وهم في الأخير فئة من البشر؟ هل لأنهم امتازوا بحمل علوم أهل البيت (عليهم السلام) دون غيرهم من حملة العلوم الأخرى؟
والعجيب أن ما نراه ونلمسه من علماء الدين في هذه المرحلة التي تسمى بالشيخوخة المتأخرة يتضاعف جهدهم الفكري والعطاء العلمي والبحثي العميق وبحضور ذهني فائق، وبذاكرة حديدية وبروح شبابية منقطعة النظير، ما يشكل نوعًا من التعجب والدهشة، ذلك أن طبيعية الإنسان في هذه المرحلة يميل للراحة والهدوء والسكينة، فضلًا عن انشغاله بمجموعة من الأمراض الجسدية!
سماحة المرجع والأستاذ آية الله العظمى الشيخ لطف الله الصافي الكلبايكاني (قدَّس اللهُ نفسه) قد ناهز عمره الشريف المئة عام، وقبل رحيله مازال يمارس برنامجه اليومي في التدريس والكتابة، ولم يترك درسه ومباحثاته العلمية، وهو يحتاج إلى استحضار ذهني وقوة في التركيز ووضوح في السمع والدقة في الإجابة؛ لأن رد الفقيه على أي مسألة شرعية مسؤولية كبرى، وهو يعلم بذلك علم اليقين بخطورة الإجابة من دون علم أو دراية ماذا سيؤول إليه مصيره، لهذا عندما يُسأل الفقيه المتقدم في العمر الحاضر الذهن يجيب بكل ثقة مع ما يلازم المسألة الشرعية من استدلالات شرعية وعقلية مستنبطة من مصادر التشريع: كتاب الله والسنة المطهرة، وحين يطلبها السائل أو طالب العلم أو الباحث تكون بين يدي المرجع مباشرة، فيجيب عنها بكل وضوح ومقدرة.
وما أعتقد فيه حول هذا الاستثناء أن الله أكرم هذه النخبة العلمائية الدينية من حالة الخرف والهوان العقلي، والسبب أنهم حملة علوم محمد وآلة الطيبين الطاهرين، ولو أنهم تعرضوا لحالة الفقد الذهني (الخرف) وهم في هذه المكانة الاجتماعية المرموقة والمستوى العلمي العالي والمتميز، فإن هذا قد يعدُّ مهانة بعد كرامة لهذه النخبة العلمائية، وهذا يتعارض مع قيم ومفاهيم هذا الدين الإلهي الرسولي النبوي، وقد ورد عن الإمام الباقر (ع): “الكمال كل الكمال التففه في الدين”، والله العالم.
وهنا أعرض بين يدي القارئ الكرام بعضًا من إنتاج فكر سماحة المرجع الراحل (رحمه الله تعالى)، وقسم منها أبدع فيه وهو في سن متأخرة من العمر، فقد كتب فقيدنا السعيد المرجع الكبير شيخ الفقهاء الشيخ لطف الله الصافي الگلبيگاني قدس سره:
1- النهضة الحسينية وعلم الإمام عليه السلام.
www.alfeker.net/library.php?id=4994
2- أشعة من عظمة الإمام الحسين عليه السلام.
www.alfeker.net/library.php?id=4965
3- أمان الأمة من الضلال والاختلاف.
www.alfeker.net/library.php?id=3205
4- لمحات في الكتاب والحديث والمذهب.
www.alfeker.net/library.php?id=2780
5- منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر عليه السلام.
www.alfeker.net/library.php?id=2136
6- حديث عرض الدين “عن مولانا السيد عبدالعظيم الحسني صلوات الله وسلامه عليه”.
saafi.com/ar/book/8150
7-بيان الأصول ٣ أجزاء.
saafi.com/ar/book/7469
saafi.com/ar/book/7881
saafi.com/ar/book/7965
8- فقه الخمس – بحوث استدلالية.
saafi.com/ar/book/7292
9- الأحكام الشرعية ثابتة لا تتغير.
saafi.com/ar/book/7266
10- سر البداء.
saafi.com/ar/book/
11- من لهذا العالم؟
shiabooks.net/library.php?id=9068
12- بين العلمين: الشيخ الصدوق والشيخ المفيد رحمهما الله.
saafi.com/ar/book/7160
13- جلاء البصر لمن يتولى الأئمة الاثني عشر عليهم السلام.
saafi.com/ar/book/7128
14- أحادیث افتراق المسلمین علی ثلاث وسبعین فرقة.
saafi.com/ar/book/7136
15- عصمة الأنبياء والأئمة عليهم السلام.
saafi.com/ar/book/7100
16- مع الخطيب في خطوطه العريضة.
shiabooks.net/library.php?id=14457
17- مع الشيخ جاد الحقّ شيخ الأزهر الأكبر في إرث العصبة.
shiabooks.net/library.php?id=12410
18- الشعائر الحسينية.
shiabooks.net/library.php?id=12370
19- أقطاب الدوائر في تفسير آية التطهير لــ الشيخ عبد الحسين، وتليها رسالتان حول العصمة لــ الشيخ لطف الله الصافي.
shiabooks.net/library.php?id=11664
20- صوت الحق ودعوة الصدق.
shiabooks.net/library.php?id=9304
21- القول الفاخر في صلاة المسافر.
shiabooks.net/library.php?id=9253
22- في تفسير آية التطهير والإنذار.
saafi.com/ar/book/2291