مقالات

مستقبل المرجعية الشيعية.. الاستقلالية والأعلمية


زكريا أبو سرير

هناك تصور عند بعض الحواضن الفكرية والثقافية والسياسية بأن مستقبل المرجعية الدينية الإسلامية الشيعية تمامًا كما هو الحال عند بقية المرجعيات الأخرى من الديانات والمذاهب والطوائف، يُحدَّد مستقبل هذه المرجعيات من قبل جهة رسمية تتبع للنظام الرسمي وتحت مرتبة وظيفية معينة، وعلى أساسه يتقاضى عليها راتبًا شهريًّا من هذا الجهة مقابل ما يؤدي من أعمال مرتبطة بخدمة المجتمع وأجهزة الدولة، وعلى أساسه أيضًا يُكافَأ في سلم المكافآت إن أحسن في أداء وظيفته، ويعاقب ويحاسب حسب نظام العقوبات التي سنتها الدولة إن أساء أو خالف توجهاتها أو أعاق أهدافها أو خان دوره المنوط به وفق المسمى الوظيفي الذي يحمله.
ومثل هذه الأدوار الوظيفية العليا المرتبطة بجهاز الدولة يمكنها أن تخضع للتنبؤات أو التحليلات من أية جهة كانت، وربما حتى من أوساط المجتمع المهتمين بالشأن العام أو من بعض المهتمين في تفاصيل الحياة، كالاقتصاد والسياسة والاجتماع وما أشبه، يمكن أن يقدموا تنبؤاتهم أو نظرياتهم ورؤاهم حول هذا المنصب الحساس الذي يعد اعتلاؤه بالنسبة لأصحابه المختصين له جانبان مهمان: الجانب الأول تشريفي والآخر تكليفي؛ لأنه يعد أحد المناصب العليا للدولة، ومن يتولى إدارة هذا الجهاز الإفتائي أو القضائي ينبغي أن يكون شخصية قريبة ومتوافقة مع سياسية وأهداف الدولة الداخلية والخارجية، ومثل هذه المناصب وبهذه الآلية من الطبيعي أن تخضع للتخمين والتحليل بسبب الحساسية التي يحملها هذا المنصب العالي، والسبب الآخر وفرة الكفاءات الذي يملأ هذا الفراغ.
أما ما يخص طريقة وكيفية مستقبل المرجعية الدينية الإسلامية الشيعية الاثني عشرية في ترشح مرجعتيها الدينية فهي طريقة مختلفة تمامًا عن نظائرها من المرجعيات الدينية المذكورة سالفًا، وقبل الدخول في البحث ينبغي أولًا توضيح أمر في غاية الأهمية يتشكل في الشخصية المرجعية الدينية الشيعية، وهو أن مركز الإفتاء وقيادة الأمة ليس له غاية شخصية ولا هو حلم أو أمنية يخطط للحصول عليه كما هو حاصل عند المرجعيات الدينية الأخرى، إذ يعتبرونه جانبًا علميًّا اختصاصيًا في مجال معين، ويشكِّل حلمًا وأمنية مستقبلية ينبغي التخطيط إليها لترسم لصاحبها مستقبلًا زاهرًا باعتبارها وظيفية رسمية راقية وتحت مسمى تشريفي كبير، وهذا المنصب يزيده مكانة وتشريفًا ومكانة اجتماعية واسعة.
في حين نرى أن المرجعية الدينية الإسلامية الشيعية تهرب من تولي مثل هذا المنصب المسؤول والحساس والكبير، باعتباره يعدُّ أمرًا تكليفيًّا شرعيًّا يزيد ويضاعف على من يتولاه عبء المسؤولية، ويحمِّله قلقًا نفسيًّا وروحيًّا وذهنيًّا؛ ما يجعل المرجع في حذر مستمر وخوف شديد من الله في حالة اتخاذ أي قرار يخص الشأن العام أو إصدار أي فتوى عبادية أو في أي جانب من جوانب الحياة.
لهذا الأمر وغيره، فإن البالغين مرتبة الاجتهاد يتنصلون من هذا المنصب الرفيع إلا عندما تحيطهم دائرة الاختيار والترشح من قبل أهل الاختصاص والخبرة وكذلك الجمهور، حينها يشكِّل ذلك عاملًا ضاغطًا على المرشح للمرجعية التي يرون فيه القابلية في قيادة الجمهور والأمة ليكون على هذا المنصب.. هنا يكون الفقيه المجتهد الملم بجميع الشرائط لا حول ولا قوة له في التسليم وخضوعه لأمر إدارة المرجعية وتولى قضاء حوائج الناس وفق ما يستنبطه من الشريعة الإسلامية.
والمرجعية لكي تمارس أدوارها المطلوبة منها من الإفتاء حتى أدنى شيء يخص العباد والبلاد لابد لها أن تتمتع بركيزتين رئيسيتين ومهمتين، إذ هما يمثلان أهم ركنين تستند عليهما المرجعية الدينية الإسلامية الشيعية:
الأول الاستقلالية: ونعني بمفهوم الاستقلالية الذي ينبغي عليها المرجعية الدينية، أن لا تقيدها أو تؤطرها أي قيود من أي جهة كانت، وهي كذلك لا تلزم أي جهة كانت بالخضوع والركون إليها، فهي تمثل مؤسسة دينية فكرية مستقلة بفكرها ورأيها وجميع نفقاتها المالية، وهي تمثِّل المصلحة العامة لكل الناس وفق ما تراه وتؤمن به، ولا تخضع لأي كيان ولا تقبل كذلك أن تجبر أحدًا للخضوع إليها تحت أي مسمى، وحتى الولاء المكتسب لها من الجمهور يكون طوعًا وليس جبرًا.
الجانب الثاني: ويدخل في هذا الجانب المكانة العلمية العالية ومنظومتا الأخلاق والسمو الروحي، كعامل التقوى والإيمان والتواضع وحسن التعامل، كما أنها تتمتع بالزهد وهو الانصراف الكامل عن حطام الدنيا وملذاتها إلا في حدود ضيقة وبسيطة كالزواج ونشأة أسرة صالحة والاستمرار في طلبها للعلم والمعرفة. أما باقي الرغبات فالمرجع الرباني يزهد فيها ويسخِّر بقية وقته وحياته في العبادة وفي خدمة الناس والدين والمجتمع والمسلمين.
وتحديد الأعلميَّة، يتم عبرة دائرة متخصصة من أهل العلم و الخبرة في هذا المجال العلمي، وهم بدورهم يقررون من هو الأعلم من بين مجموعة من الفقهاء والمجتهدين المعروفين والبارزين والناشطين في الحوزات العلمية الدينية بواسطة ما يطرحه من قوة في الاستدلال وعمق في استنباط الحكم الشرعي، وذلك من وحي البحوث العلمية التي يقدمونها وبالخصوص في البحث الخارج الذي يميز الفقيه والمجتهد ويبيِّن مدى قوة ذكاء وعبقريته دون غيره عبر قدرته العالية في فهم استيعاب الأدلة الشرعية عن طريق المصدرين الرئيسين التشريعيين الإسلاميين: القرآن الكريم والسنة المطهرة، وينظم لهذه المكانة العلمية التخصصية خبرته الإدارية في مدى معرفته بكيفية إدارة أمور المرجعية، وقربه بمجريات الحياة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، حسب مصطلح “العارف بأهل بزمانه”، وأن يكون ذا موسوعة ثقافية في التاريخ وذا رؤية ثاقبة عن الحاضر والمستقبل، ومتفهمًا لطبيعة بقية الأديان السماوية الأخرى وكذلك الديانات غير السماوية، وهذا الرصيد الثقافي الواسع يمكِّنه من امتلاك لغة إنسانية وثقافية يخاطب بها كل الأطراف. بهذه المميزات والمواصفات يُمنح الفقيه وسام المرجعية.
فالمرجعية الدينية الشيعية الإسلامية الاثني عشرية قد أرست قواعدها الترشيحية لمنصب المرجعية قبل ألف عام ونيف فيمن يكون خير خلف لخير سلف إلى أن يأذن الله بظهور وليه الشريف، وتم ذلك وبالتحديد في نهاية الغيبة الكبرى لإمامها الثاني عشر الإمام محمد بن الإمام الحسن العسكري عليهما السلام في عام ٣٢٩ هجرية، وهو يعد الإمام الموعود والمبشر به من جده رسول الله (ص) ووصيه أمير المؤمنين الإمام علي (ع) وبقية الأئمة الأطهار (ع)، وهو بنفسه الشريفة من حدَّد معايير ومواصفات المرجعية الدينية لتقوم بالنيابة عنه بالدور في أمور الدين والدنيا حتى ظهوره الشريف بأمر من الله سبحانه وتعالى حين قال صلوات الله وسلامه عليه: “فأما مَن كان من الفقهاء صائنًا لنفسه، حافظًا لدينه، مخالفًا لهواه، مطيعًا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلِّدوه”، فمن هنا أرسى الإمام قاعدة الرجوع إلى الفقهاء، فأصبح هاجس الشعور بالقلق عن مستقبل ومصير المرجعية أمرًا غير موجود أبدًا، وإرهاصات من سوف يخلف المرجعية الدينية الشيعية في النجف الأشرف أو قم المقدسة أو في أي مكان فهو أمر قد تم حسمه؛ باعتبار وجود قواعد دقيقة ومتينة يقف عليها عند اختيار المرجع الديني الذي يكون بذلك خير خلف لخير سلف.

اترك تعليقاً

نص التعليق

زر الذهاب إلى الأعلى