العائلة وقود روحي ومعنوي للفرد والمجتمع
زكريا أبو سرير
العائلة هي قلب الحياة الاجتماعية، وهي الأرضية الذي تنشأ عليها بذرة المجتمع، وهي الكيان الذي ينطلق الفرد منها إلى فضاء الحياة. العائلة هي الدفء والظل والمحامي والسند، هي العز والعشيرة والحسب والنسب، هي صمام الأمان، وهي الباقيات، وهي الدرع الذي يحميك من كل الصائبات، بل هي الحصن الحصين، وهي فخرك وأنت فخرها.
والعائلة (الأسرة) مجموعة من الأفراد الذين يعيشون معًا، وأنا أرمي من تقديم فهم العائلة إلى أبعد من ذلك، أي ليس هو فقط طيف معين من الأفراد، بل أشمل وأوسع وأبعد. هو الكيان الاجتماعي لهذه العائلة الذي يمثل عبارة عن الرابطة الاجتماعية، والذي لها امتداد وعمق اجتماعي.
يُذكر في علم الاجتماع أن سر نجاح أي شخص في الحياة يبدأ من عائلته، وسر فشل أي شخص في الحياة يبدأ منها كذلك، ذلك أن العائلة بيدها مفاتيح السعادة، وبيدها مفاتيح التعاسة، وهذا يكشف على أن لها دورًا فاعلًا ومؤثرًا على نفسية الفرد، كونها هي الصانعة والمربية، وهي الرافد الأول للإنسان، حيث تُشكل مسقط رأس الإنسان والأكسجين الذي يتنفس ويتزود منه حين حاجته إليها.
النظام العائلي هو المعلم والرافد الأول للإنسان، ومنها يتعرف الفرد على مفهوم النظام والتقيد والالتزام، وأول رضاعة ثقافية يتلقاها هي من قلب العائلة، أي أنها هي المنبع الثقافي الأول الذي يلمسه الإنسان روحيًّا ومعنويًّا، وحين يتعرف على أنظمة أخرى، فإن ما يطرق حسه وعقله وذاكرته هي القوانين العائلية التي سنتها، سواء كان هذا النظام إرثًا أو عرفًا أو اكتسابًا بسبب تغير المكان أو الزمان أو الثقافات. المهم هو أول نظام عمل به واحترمه، لأنه هو من يمثل العائلة، بل هو عمودها.
إذن العائلة هي تشكل البنية والأرضية والأساس الذي تبلور شخصية وسلوك وثقافة الفرد، ولأن العائلة هي العمد والمعتمد عليها لصناعة الكفاءات من داخل قلب العائلة، لذا فمن الواجب المحافظة على سورها شكلًا ومضمونًا؛ لأن أي شرخ أو ضعف فيها يؤدي إلى ضعف الفرد وانهيار العائلة، وهذا يعني سقوطه كيان اجتماعي.
ماذا تعني العائلة؟
العائلة هي كيان اجتماعي تحمل اسمًا أو لقبًا له عمق اجتماعي، وبعض الأحيان لها عمق تاريخي، وهو الاسم أو اللقب المعرف للعائلة الذي ينضم حوله كل أفراد العائلة مع تفرعاتها الأسرية، وهو بذلك يكون محل اعتزاز وفخر في المجتمع، بل إن العائلة تعدُّ الانتماء والوطن الأول للفرد، وهي الهوية الأولى الذي يتجول بها في المجتمع وفي الوطن بل في خارجه، لهذا فإن لها أبعادًا إنسانية واجتماعية ووطنية ودولية.
ودعا الإسلام عن طريق دستوره القرآني المجيد والسنة المطهرة إلى دعوة ملحة إلى حالة الاستقرار الدائم في العائلة، عن طريق المودة والمحبة الأسرية لكي تكون أكثر سعادة وأكثر تلاحمًا، والبعد عن كل أنواع العنف والإساءة لبعض أفرادها ولكيانها، وعلى كل فرد ينتمي لها أن يحرص على وضعها في قالب مذهب ولامع، وينبغي أن توضع ضمن الخطوط الحمراء من كل فرد ينتمي إليها، حتى يظل اسمها يرفرف في سماء المجد الاجتماعي والوطن، ولا يسمح لأي فرد تحت أي ظرف أو عنوان أن يضع سمعة عائلته بضاعة رخيصة بين يد كل من هبَّ ودبَّ وتعرضها للقيل والقال، بل ينبغي أن تكون هي التاج المذهب والمرصع بالمجوهرات واللؤلؤ والمرجان في القول والفعل.
ما هو دورنا تجاه العائلة؟
أدوارنا تجاه العائلة كثيرة، أولها وأهمها وجوب تحمل المسؤولية في رفع مكانتها الاجتماعية والوطنية، عبر حرص أبنائها الدائم في المحافظة على مكانتها وكيانها وسمعتها الاجتماعية والاعتبارية، والالتزام بتربية وتثقيف كل فرد فيها تربية صالحة، والاهتمام بإنتاج الكفاءات منها، وبث فيهم روح الخير لأجل أن تفرز أفرادًا قادرين على تحمل المسؤوليات الاجتماعية والوطنية.
بِمَ تتفاخر أبناء العائلة؟
التفاخر والتباهي والاستعراض يمثل رذيلة، وهو مذموم في الإسلام ومن الأخلاقيات الهابطة، وقد أشار له ربنا في كتابه الحكيم حين قال: “اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ” {الحديد: 20}.
إذًا، هذا النوع من التفاخر ينتج عنه تربية خاطئة ومدمرة، تصل بالفرد إلى درجة الغرور، وهو (الغرور) أعلى درجات التعالي على الآخر، والسبب لطرد إبليس من رحمة رب العالمين، وقد نبهت الآيات الكريمة على أن هذا النوع من التفاخر مذموم دينيًّا واجتماعيًّا ونهايته خسارة إنسانية ودنيوية وأخروية، إذ إنه يصنع مجتمعًا عنصريًّا وبرجوازيًّا، فهو يقوم بعملية فرز الكتلة المجتمعية وجعلها بشكل طبقات اجتماعية متفرقة وضعيفة، ما ينتج عنه ثقافة عبودية بشرية، وهذا ما يقف الإسلام أمامه (وبحزم)، وكل الديانات السماوية وكل الثقافات الإنسانية السوية.
الفخر والتفاخر قد يكون شعورًا غريزيًّا وطبيعيًّا عند الإنسان، ولكن بماذا وكيف يتم توظيفه ووضعه في المفاهيم الإيجابية وإبعاده عن الحالة السلبية التي أشار إليها القرآن الكريم؟
التفاخر المحمود هو إيجاد آلية تطوير الذات وتحسين المهارات العلمية والعملية والشخصية والاجتماعية، إذ إن التفاخر ليس بما صنعته العائلة للدين والمجتمع فحسب، حينها يتحول إلى نوع من الاستعراض الكلامي أمام الرأي العام، بل المطلوب في كيفية التفكير وفي كيفية استمرارية ما انتهت منه العائلة من تقديم خدمة/ خدمات اجتماعية جليلة للدين وللمجتمع وللوطن، ومن ثَمَّ تطويرها وتوسيع نطاقها الجغرافي والتواضع والزهد فيها. التفاخر الإيجابي هو في التسابق والتشجيع على عمل الخير بما قدمته وتقدمه العائلة من دور فعال في المجتمع وحث أفرادها على توارث أبنائِها جيلًا بعد جيل على ما ينفعهم وينفع مجتمعهم ووطنهم، وينبغي أن يكون التفاخر هو حاصل شعورنا بالسعادة عند خدمة أي أحدٍ من أفراد العائلة أو أي أحدٍ من أفراد المجتمع، وهذا النوع من التفاخر الذاتي والباطني، يضمن لنا استمرارية العمل الخيري والطيب الذي ينتظر حصاد ثماره عند الله (جل شأنه)، وليس من زيد وعبيد.