الزهراء … أربعة وجودات

✍️ حسين المحروس
كأن الكون يوم خُلق، احتاج إلى قلبٍ يضيء من داخله، فجاءت الزهراء عليها السلام. فقد تجلببت ببردة المرأة الكاملة في أقدس صوره، سرٌّ خفيّ من صميم بنية الوجود، حوراء إنسية, وروح شعت على الأكوان. إنّها فاطمة وما أدراك ما فاطمة! الرحمة التي تقلبت في أربعة وجودات: (1) نوريّ، (2) وفردوسيّ، (3) وملكوتيّ، (4) وماديّ، لتكون في كل طورٍ منها آية على اكتمال عقلها وسموّ روحها.
في وجودها النوريّ، خلق الله بذرة الوجود من نورها, فكانت اشباحا ونورا قبل ابتداع الخلق, ومضةً تسبق كل إشراقة، قبسًا يتوهّج قبل أن تشرق شمس أو يُخلق قمر. كأنّ الليل نفسه كان ينتظر أن تشقّ عتمته بسناها، لم تقدح شرارة الامكان إلا حين أذنت له. لم يكن نورها ضوءًا مادّيًا، بل نفحةً رحمانية، تتسلّل إلى قلوب السالكين. إنّ نور مشكاة النبوة لا يُرى بالعين، بل يُدرك بالطهر والنقاء, فكل من أحبّها، انفتحت له نوافذ المعرفة النورية، وامتلأ وجدانه بأنفاس عالمها.
أما في وجودها الفردوسيّ، فهي تفاحة الجنة. من أحبّها، شمّ نسيمًا من نعيمٍ الخلد، وتذوّق طعمًا من ثمرة الكمال. الفردوس ببركة الزهراء اضحى انعكاسا لطمأنينة سكنت قلوب العاشقين، حتى أمسى المحب يتقلب في الدنيا وقلبه يهيم في جنان الفردوس. ان كل من استشعر فردوسها، أحس أن بينه وبين الخلود مددا من راحة قدسية، وأنّ جنة فؤاده قد ازدهرت قبل ان يبدا عالمه البرزخي.
وفي وجودها الملكوتيّ هي طهر طاهرة مطهرة، (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) ترفرف البتول في فضاءٍ لا تحدّه الأكوان. هي الجسر بين اهل الأرض والسماء، والوسيط بين عالم الشهادة والغيب. هناك حيث تتلاقى الأرواح الطاهرة، تغمر روحها قلوب الأولياء، كأنها تناديهم أن ارتقوا فوق العلى، أن اسمعوا ما وراء الصمت، أن تبصروا ما يلي الحجب. في هذا البعد، تُعلّمنا الزهراء أنّ الإنسان ليس كائنًا محدودًا بجسده، بل هو امتدادٌ لملكوتٍ أوسع، لا تقرع أبوابه إلا بمحبتها.
شرفت الزهراء الوجود الماديّ (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ), ابنةً لرسول الله، وزوجةً لوصيه، وأمًّا لسيدي شباب اهل الجنة. لكنها حتى في عالم التراب، كانت تُزهر لأهل السماء من محرابها فترشدهم طرق السماء ومسالك الصعود الى الله. خبزها تعبد، وابتسامتها وحي، وصبرها تسبيح. تجلببت القداسة في ردائها, تمشي على الأرض، تعلّم الناس أن الطهر لا يعني الهروب من الحياة، بل بالاندماج فيها. كانت الزهراء عليها السلام تجسيدًا للمعصوم الذي بلغ غاية التكامل فاستوى على عرش الكمال، منتهى الكمال, يمازج بين الروح والمادة في تناغم ربانيّ مقدس.
وهكذا تتجلّى الزهراء في أربعة أطيافٍ وجودية، كلّ واحدٍ منها بابٌ إلى رحمة الله. من نورها أشرق أصل الممكنات، ومن فردوسها نبعت غاية الخلود، ومن ملكوتها غمر الفيض الإلهي الوجودات كلها، ومن مادّيتها انتشر الحب والطهر والكمال. من أحبّها بحقٍّ اتبعها (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه)، ومن استضاء نورها أشرق فيه، حبّها مفتاحٌ السرّ الإلهي واللطف الخفي.