مقالات

دعوة إلى العفو


زكريا أبو سرير

قال الله تعالى في كتابه الكريم: ” فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ”. {الشورى: ٤٠}.
يكفي أن نعلم بأن من يقوم بهذين العملين (العفو والإصلاح) أجرُه يقع في يد الله سبحانه وتعالى، لا بيد أحد، ولو كان من الملائكة المقربين، إذ إن عمله يتكفل به ربُّنا جل جلاله، وهذا يعني أن الأجر الذي وعد به الله عباده الصالحين الموفقين لمثل هذا الأمر لا يحصي قدره ولا بُعده ولا حجمه ولا ثقله في الميزان غير الله فقط وفقط؛ لهذا تكفل به الله.
ما دعاني إلى كتابة هذه المقالة أمر يخصني شخصيًّا، ولكني وجدتُ فيه عظة وعبرة نستفيد منها جميعًا وأولهم كاتب هذا المقال، ونحن في شهر الله الذي تصب فيه الرحمة على العباد صبًّا، هو شهر أعظم الشهور، ولياليه أفضل الليالي وأيامه أفضل الأيام، شهر تتنزل فيه الرحمة والمغفرة ولو كانت الذنوب كزبد البحر.
وعندما قررت كتابة ونشر هذا المقال لم يأتِ في بالي شيءٌ سوى الأجر والمثوبة من ربنا الكريم، فأسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، ويعفو عنا وعنكم ومن أساء إلينا وإليكم إنه سميع مجيب.
القصة باختصار، كنت متوجهًا إلى عزاء أحد المؤمنين (رحمه الله)، وقبل أن أركن سيارتي لأتهيأ للخروج منها، وإذا باتصال على هاتفي الجوال من شخص لا أعرفه غير أن اسمه ظهر لي باسم شخص مع كنية عن طريق برنامج البوك فون، بادرته بالتحية والسلام وكان في صوته نبرة حزن وأسى فقال لي وهو يتلو الآية الكريمة التي افتتحت وتباركت بها هذا المقال: ” فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ”، فقلت صدق ربي وعده وهو خير الصادقين.
عندها قال لي والحزن واضح في صوته: أبا مرتضى أطلب منك العفو والصفح عني، فقد أسأت إليك في لحظة كان الشيطان قد سلب مني التفكير عن يوم لا ينفع فيه مالا ولا بنون ولا ينفعني لحظتها حتى أحن الناس علي في الدنيا وهما أمي وأبي، وأخذ يردد: قاتل الله الحسد والحقد والكراهية والبغضاء وكل أوجه الشيطان ووسائله الشيطانية المدمرة لحياة الإنسان، وإني والله يا أبا مرتضى قد سلب الله مني الراحة والنوم حتى أني شعرت باختناق من هذا الذنب، خاصة أني قد أسأت إليك أمام آخرين ولا أدري مدى تفاعل هذه الإساءة ومضرتها عليك؟! عندها صمت المتصل وصوته مختنق بعبرة وعليه غمامة من الحزن العميق، شعرتُ أنها قد ملأتْ حنجرته وضاق صدره ويكاد أن يختنق بها بالفعل.
وبعد انتهاء ما كان يودُّ إيصاله إلي، قلت له: يا مؤمن، أنا من يلتمس منك العفو والمعذرة؛ لأني تسببت في جعلك تعيش وضعًا نفسيًّا صعبًا طوال هذه الفترة، ولو كنت أعلم بما أنت فيه لبادرت بنفسي، وذهبت إليك لكي أنتشلك مما أنت فيه، وتأكد أني قد عفوت عنك وعمن كانوا معك ومن كانوا معهم ومن يتناقلون ما سمعوا منك. أسأل الله لي ولكم العفو والمغفرة وعتق رقابنا جميعًا من النار، ونم قرير العين والبال أنت ومن معك، واعلم بأنكم مبرئِين الذمة إن شاء الله تعالى.
عندها وكأني رششتُ عليه رذاذًا من الرحمة الإلهية وأخذ صوت البكاء يظهر منه وهو يكرر: هل فعلًا عفوتَ عني وعن إساءتي إليك؟ أجبتُه بنعم ومن طيب خاطر أيضًا من دون معرفة حتى ماذا افتريته علي، فطلب مني الزيارة ليقدم اعتذاره مباشرة ويعرفني بنفسه، فرجوتُه بأن لا يفعل هذا الأمر لا لشيء إلا لحفظ ماء وجهه، وطلبتُ منه عدم التعريف بشخصه الكريم لي غير أني طلبت منه الدعاء.
هذه القصة المستوحاة من الواقع ليست والله للعرض والشهرة، وإني والله أقوم بفعل هذا الصنع (إطلاق العفو) كل عام في بداية كل شهر رمضان، فأنوي العفو عن كل من أساء إلي بقصد أو من غير قصد، وكنتُ ومازلتُ أفعل هذا الأمر في كل عام عند بداية شهر الله الأعظم؛ وذلك لمضاعفة الثواب والأجر، فإن في شهر رمضان تتضاعف فيه الحسنات أضعافًا مضاعفة، ولعلنا نربح فيه الجوائز الكبرى والرحمات الإلهية، ونفوز فيه بعتق رقابنا من النار، وأن يدخلنا الجنة مع الأبرار مع محمد وآلة الطيبين الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين).
ومنذ أن زرع فينا سماحة الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي الراحل (رحمه الله) روح هذه المبادرة الإيمانية الطيبة، حين كان يطلق العفو على كل من أساء إليه، وعندما كثر من يأتي للاعتذار منه على ما قدم من إساءة في حقه، وبعضهم كان يقطع المسافات الطويلة ويتكبد عناء الوصول إليه، وضعها ضمن وصاياه الكريمة حتى يخفف على كل من أساء إليه التعب النفسي والجسدي والمالي، بل وقد بلغت مساحة عفوه الكريم من يسيء إليه حتى بعد رحيله إلى الرفيق الأعلى، أي جعل عفوه مفتوحًا وعامًا تمثلًا في ذلك بسيده ونبينا الكريم رسول الله وأهل بيته الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا.
وزبدة ما أبتغيه وأتمنى أن يصل إلى القارئ الكريم رسالة العفو وطعم الإحساس والشعور به، بالرغم مما يواجهه العافي من صعوبات وتحديات نفسية كبرى تتطلب منه القفز عليها وتجاهلها والتغافل عنها لاختياره العمل بالثقافة القرآنية والمبدأ القرآني الأخلاقي الرفيع الذي هو سمة أنبيائه وهدف الرسالات الإلهية والذي أمروا بأن يعملوا ويبشروا به، ذلك أن العفو والصفح والتسامح والإصلاح هو خلاصة العبادات، ونحن على أعتاب شهر الله الأعظم شهر رمضان المبارك التي يحبس الله فيه الشياطين وتغل أيديهم عن عباده إكرامًا لهذا الشهر الفضيل، وتتضاعف فيه الحسنات والثواب، فهو شهر من يَخرج منه ولم يُغفر له فهو أشقى الأشقياء، وهو موسم يعيش فيه المؤمن العبادة والعمل على إصلاح النفس وفي العطاء الاجتماعي، وهي فرصة إذا وفق العبد لإحيائه، وقد لا يعلم هل يعود له مرة أخرى أم لا، نسأل الله لكم ولنا بأن نكون من عباده العافين والصالحين والصافحين إنه سميع مجيب.
للمعلومية، تم أخذ الإذن من طالب العفو لكتابة هذا الحوار في قالب مقال لتعميم الفائدة.

اترك تعليقاً

نص التعليق

زر الذهاب إلى الأعلى