مقالات

روّاد المنبر الحسيني والأمل المنشود

بقلم: تركي العجيان

نعمةٌ عُظمى أنعم الله بها على أتباع مدرسة أهل البيت (ع) أن حباهم بهذا الموسم العظيم الذي لا نظير له في تاريخ بني البشر.

والمتأمل بموضوعية وتجرّد يمكنه رصد التنوع الذي يزخر به المنبر الحسيني في مجتمعنا المحلي، وهذا التنوع الذي يعطي الموسم قوةً، كما يمنح أبناء المجتمع ثراءً دينياً ومعرفياً وعاطفياً. ولذا كان من الضروري أن يكون لدى الفرد أيضاً تنوعٌ في المجالس الحسينية التي يرتادها ليحقق أكبر قدرٍ من الفائدة والاستثمار الحقيقي لهذا الموسم العظيم.

فمن الخطباء من إذا حضرت لديه تفاعلت نفسك عاطفياً، وذرفت دموعك من أماقيها، وهاجت عبرتك، ليطهُر قلبك، وتصفو نفسك، فالبكاء على الإمام الحسين (ع) غالي وثمين، وآثاره على النفس لا حصر لها حين يكون ذلك البكاء نابعاً من قلبٍ طاهرٍ ونقي. ولا يخلوا مجلس هؤلاء الخطباء من موعظةٍ أو حديث في السيرة الحسينية أو مراجعةٍ لمسألةٍ شرعية مما يجعلها مجالس للذكر والإحياء والبكاء في آنٍ واحد.
ومن الخطباء من تخصص في الجانب الفقهي، لتجده يعالج القضايا الفقهية في خطابه المنبري راجياً أن يتفقه الناس في أمور دينهم ودنياهم عملاً بوصايا أئمة أهل البيت (ع).

ومن الخطباء من نذر نفسه لمعالجة قضايا الشأن العام من خلال المنبر الحسيني، فيتعرض لمختلف القضايا الاجتماعية ومن خلال البحث والمطالعة يقدّم معالجاتٍ تسهم في حل أو التخفيف من آثار تلك القضايا المعاصرة.

ومن الخطباء من يكون منبره أشبه بالتأصيل التأريخي، وكأنك تسمع لمؤرخٍ واسع الاطلاع والمعرفة بقضايا التاريخ، وخصوصاً ما يرتبط بنهضة الإمام الحسين (ع).

ومن الخطباء إذا حضرت لديه تجد نفسك وكأنك في مدرجٍ لجامعةٍ أكاديمية تستمع في مجلسه لمختلف البحوث والنظريات والمفاهيم الحديثة، التي تحاكي العقلية المثقفة والواعية.

ومن الخطباء من يُبحر معك في أكثر من مجال، إلا أنه يبقى متميّزاً ورائداً في مجالٍ من المجالات التي يُثريها بفكره الوقّاد.

ومن بين هذه النماذج المتنوّعة يبرز خطباء روّادٌ للمنبر الحسيني، وكلٌ في مجاله، ومما لا شك فيه أن هذه المجالس تسهم إسهاماً كبيراً في إثراء الجانب المعرفي والفكري والثقافي للجيل الشاب، وهي منابر تستحق الاهتمام والمتابعة، حتى وإن ضاق الوقت يمكن متابعتها عبر وسائل التواصل الحديثة إذ أن كلَّ الخطابات التي ترتقي لمستوى الريادة في مجالها تُبث بشكلٍ مباشر، مما يتيح الفرصة لمتابعتها من بُعد، أو في وقتٍ لاحق، فحريٌّ بالشاب المثقف الواعي أن يقتفي أثر هؤلاء لينهل من معارفهم ما يرتقي بفكره ووعيه.

والمأمول من الخطباء الروّاد في مجتمعنا أكثر من ذلك، فرغم قوّة الطرح والبحوث التي يتم تناولها في هذا الموسم العظيم إلا أنها تبقى نتاج بحوثٍ قد قدمها آخرون سواء من العلماء أو المفكرين أو الباحثين في الماضي أو الحاضر، إلا أننا لم نجد خطيباً في مجالٍ من المجالات يقدم رؤيةً أو نظريّةً أو استنتاجاً أو معالجةً أو مفهوماً توصّل إليه من خلال البحث والاستقراءٍ والدراسة، سواءً بجهدٍ ذاتي أو مؤسسي. نعم نحن نسمع كثيراً من الخطباء الروّاد ما يشجع المفكرين على رفد الساحة بالرؤى والنظريات الجديدة، وهذا أمرٌ في غاية الأهمية، إلا أن ما نؤمله من الخطباء الروّاد أكبر من ذلك بكثير.

ومن هنا فإنني وفي هذا الموسم المبارك أدعو الخطباء الروّاد لأن يجعلوا موسم عاشوراء موسماً لعرض آخر ما توصل إليه فكرهم في المجال الذي هم روّاداً فيه، ليرتقي المنبر الحسيني من مجرّد عرض الأفكار والنظريات والمفاهيم الموجودة في الكتب، إلى تقديم آراء ونظريات ومفاهيم من نتاج الخطيب الحسيني ذاته، وهذا ليس صعب المنال على الكثير من الخطباء الروّاد في مجتمعنا، فالحمد لله الساحة الاجتماعية تزخر بمجموعة من الخطباء الذين لا نظير لهم في عالمنا الإسلامي ولذا فإن المأمول منهم بما يوازي ثقلهم الخطابي، وإن شاء الله نرى ذلك في الموسم القادم ليبادر كل خطيب من الروّاد برفد الساحة بفكرٍ جديد ورؤى حديثة ونظريات تعالج القضايا التي تصب في اهتماماته، ليكون موسم عاشوراء مدرسةً رائدةً على هذا الصعيد.

فالخطيب صاحب الريادة في مناقشة القضايا الاجتماعية يُنتظر منه أن يقدِّم معالجاتٍ حقيقيةٍ للقضايا التي تشغل اهتمامه، بحيث تكون تلك المعالجات من نتاجه الفكري وعمله الاجتماعي ليكون بذلك نموذجاً رائداً ليس في تناول القضايا الاجتماعية فحسب، وإنما في تقديم معالجات مبتكرة.

وكذلك الخطيب الذي له يد السبق في بحث القضايا الفكرية والثقافية والفلسفية يُنتظر منه بلورة رؤيةً أو نظريةً أو مفهوماً في ذات المجالات التي تشغل اهتمامه، ليتحوّل بذلك المنبر الحسيني من مرحلة استعراض آراء ونظريات وبحوث الآخرين إلى مرحلة تقديم آراء وبحوث ونظريات جديدة وحديثة عكف عليها الخطيب طيلة عام كامل.

وهكذا الحال في بقية المجالات التي تشغل اهتمام روّاد المنبر الحسيني؛ ولو حصل وتحقق هذا الأمر سيتحول المنبر الحسيني في كل عامٍ إلى مصدرٍ لإلهام ورفد الساحة الاجتماعية بنتاجٍ فكريٍّ وعلميٍّ واجتماعيٍّ يتميز بالأصالة والعمق والحداثة في آنٍ واحد. وستكون حينها دعوة الخطباء الروّاد للنهوض الاجتماعي في مختلف المجالات محل تقديرٍ واهتمامٍ وترحيب من نخبة المجتمع، وستلقى صداها بمبادراتٍ واعدة استجابةً لخطيبٍ يمتلك الريادة والسبق في خطابه الحسيني.

السلام على الحسين، وعلى عليِّ بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين، ورحمة الله وبركاته.

اترك تعليقاً

نص التعليق

زر الذهاب إلى الأعلى